التجربة الروسية فى عملية التنمية والنمو جديرة بالدراسة والاستفادة منها رغم ما بها من إخفاقات، فهى بكل تأكيد تحتوى على دروس هامة من الممكن أن تستفاد مصر بها فى الفترة القادمة. وتأتى أهمية روسيا أن النموذج المصرى للتنمية فى ستينيات القرن الماضى تأثَّر كثيرًا بتجربة الاتحاد السوفييتى حينها، بالأخص فى ما يخص المركزية الشديدة، سواء على مستوى التخطيط الاقتصادى أو المتابعة والمراقبة والمحاسبة. فطريق صلاح سالم خير شاهد على ذلك بالجهاز المركزى للمحاسبات والجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء والجهاز المركزى للتنظيم والإدارة ووزارة التخطيط، ويتضح التأثر بتجربة الاتحاد السوفييتى بشدة فى معمار تلك الأجهزة المركزية. ولعله من المفيد النظر فى نجاحات وإخفاقات التجربة الروسية نظرًا لمرورها بظروف شبيهة بمصر وإن اختلفت التفاصيل منذ التسعينيات. فبعد سقوط الاتحاد السوفيتى مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات حاول الدب الروسى الانضمام إلى المنظومة العالمية والتحوُّل نحو اقتصاد السوق، ولكن لم تنجح تلك المساعى بالشكل المأمول كما حدث فى مصر حينما اتجهت نحو تنفيذ روشتات الإصلاح الاقتصادى دون جدوى حقيقية. ومن أهم دروس التجربة الروسية فى التحول الاقتصادى، ما يلى: 1- التحول نحو اقتصاد السوق لا يعنى الانتقال الأوتوماتيكى من القطاع العام إلى القطاع الخاص. الجدير بالذكر أن روسيا شهدت عملية خصخصة مهولة فى منتصف التسعينيات لم تنعكس إيجابيًّا على القطاع الخاص، بل أدَّت إلى التحوُّل نحو نوع جديد من رأسمالية الدولة، بحيث سيطرت على الاقتصاد مجموعات موالية لرجال الدولة لتتكون شبكة مصالح تقف عائقًا أمام وصول ثمرات النمو إلى قطاع واسع من الشعب الروسى. فالتحوُّل نحو اقتصاد السوق يجب أن يكون تدريجيًّا ويجب أن تصاحب عملية الخصخصة ثمة ترتيبات، منها الشفافية وتحسين القوانين المتعلقة ببيئة العمل وحقوق العمال والاستثمار، بالإضافة إلى تطوير عمل الأجهزة الرقابية. 2- حقوق الملكية شرط أساسى للتحوُّل السليم نحو اقتصاد السوق انحصر الاقتصاد الروسى فى بداية تجربة التحول نحو اقتصاد السوق على نمو الشركات الكبيرة، بينما عانت المشروعات الصغيرة والمتوسطة من بعض العقبات نتيجة ارتفاع معدلات الفساد وتجاهل صناع السياسات العامة أهمية الدور الذى من الممكن أن تلعبه تلك المشروعات. كما أن غياب أُطر تشريعية ومؤسسات للحفاظ على حقوق الملكية أثَّر بالسلب على ريادية الأعمال. والمقصود هنا بريادية الأعمال هو المشاريع التى تُبنى على أفكار جديدة، بالأخص فى مجال التكنولوجيا، ولديها الفرصة لتكبر وتوسّع نشاطها، مثل شركات «جوجل» أو «فيسبوك» أو «أمازون». فقياس قوة الدول الاقتصادية يعتمد بشكل كبير على قدرتها على تشجيع الابتكار وحل المشكلات التى يواجها المواطنون والدول من خلال أفكار جديدة من السهل تطبيقها. وبلا وجود إطار لحقوق الملكية يفشل رياديو الأعمال فى نشر أفكارهم وتحوليها إلى مشاريع تدر ربحًا، فيتجهون إلى دول تحفظ تلك الحقوق. فالحفاظ على حقوق الملكية مشكلة حدت من انطلاق اقتصادى أسرع لروسيا تنافس بها الاقتصادات الكبرى، مثل الولاياتالمتحدة، ولعل مصر تستفاد من هذا الخطأ. 3- تنويع مصادر الدخل وسيلة تحقيق التنمية المستدامة حققت روسيا معدلات نمو عالية فى الفترة ما بين 1998 و2008 بمتوسط 7% لم تستمر طويلاً بعدما طالتها عواصف الأزمة المالية العالمية بعد 2008، وذلك نتيجة اعتماد الاقتصاد الروسى بنسبة 50% على المنتجات البترولية. وعلى الناحية الأخرى التنافسية الصناعية الروسية ضعيفة جدًّا وتعتمد الحكومة الروسية فى هذا الصدد على التجارة الداخلية للمنتجات الروسية بدلاً من التصدير، وهو ما يقلل الدخل الروسى من العملات الأجنبية. فلا يمكن أن تعتمد دولة على مصدر واحد للدخل وإلا أصبحت رهينة أى أزمة مفاجئة. 4- التنمية البشرية شرط للتنمية الاقتصادية فى محاولة تقديم رؤية مختلفة عن الاقتصاد الروسى وتكسير كل الأنماط المتعلقة بمشكلات الفساد وسيطرة الشركات الكبيرة على الاقتصاد، أصدر الملتقى الاقتصادى الدولى تقريرًا حول غير المعلوم فى الاقتصاد الروسى، وبعد إجراء استطلاع لرجال الأعمال حول التحديات التى تواجههم، اتضح أن 15% فقط يرون أن الفساد يمثل عائقًا لتنمية أعمالهم، بينما أجمعت الأغلبية على أن المشكلة الحقيقية تكمن فى عدم كفاءة العمالة. فحتى إن نجحت الحكومة الروسية فى توفير مناخ استثمارى جيد للقطاع الخاص تبقى العمالة أزمة تواجه الاقتصاد الروسى. 5- إصلاح القطاع الخاص لا يقل أهمية عن إصلاح القطاع العام كما أشرنا سابقًا فالتحوُّل نحو اقتصاد السوق أدّى إلى ارتفاع معدلات الفساد، مما جعل الجميع يوجه أسهم الاتهام نحو القطاع الحكومى. نعم القطاع الحكومى جزء من المشكلة، ولكن القطاع الخاص هو الآخر شريك. ولذلك فعملية إصلاح وتطوير القطاع الخاص جزء مهم من التجربة الروسية، ففى دراسة الملتقى الاقتصادى الدولى حول الشركات الناجحة فى روسيا اتضح أن قصص النجاح تنطوى على عملية إصلاح داخلى للقطاع الخاص متمثلة فى تطبيقات حوكمة الشركات، بداية من ضم مستقلين إلى مجالس الإدارات وتفعيل آليات الشفافية والإفصاح، بالإضافة إلى وضع أُطر حديثة للمساءلة والمحاسبة. كما أوضح رجال الأعمال أيضًا أن المسؤولية الاجتماعية للشركات تجعل من الشركات الخاصة شريكة فى العمل العام من خلال دعم مشاريع تنموية تساعد على رفع كفاءة العمالة، ومحاربة الفقر، وتحسين صورة القطاع الخاص فى المجتمع. يجب أن تستفاد مصر من هذه الدروس، ونتابع جيدًا كيف ستتعامل روسيا مع تلك التحديات، وبالأخص أن الاقتصاد الروسى مهدد بالانكماش 3% خلال العام القادم. فهل تستطيع روسيا تخطّى تلك الأزمات؟ علينا أن نتابع جيدًا حتى نستفيد من التجربة فى حالة نجاحها أو إخفاقها. ولا يفوتنا أن نحدّد مجالات من الممكن أن تستفاد منها مصر من خلال التعاون الاقتصادى والفنى مع روسيا: - الصناعات التعدينية والاستخراجية: يعتمد الاقتصاد الروسى بشكل كبير على الموارد الطبيعية والتعدين، ولذلك من الممكن أن تستفاد مصر من هذه الخبرات بالأخص فى عملية تنمية سيناء وفى وسط الصعيد. - الفحم: كان هناك جدل شديد فى الأشهر الماضية حول تعزيز استخدام الفحم فى توليد الطاقة، وما له من آثار بيئية جانبية، ولكن بما أننا نمضى فى هذا النهج فلا مانع من الاستفادة من الخبرة الروسية فى هذا الصدد. - الطاقة النووية: وقد تم اتفاق أوّلى بين البلدين خلال زيارة الرئيس الروسى الأخيرة فى فبراير الماضى. لا شك أن روسيا تلعب دورًا إقليميًّا قويًّا والتعاون معها اقتصاديًّا يعزز من أواصر العلاقة على المدى البعيد ويؤسّس لعلاقة صلبة استراتيجية. هذا نهج يجب أن تتبناه مصر مع جميع الفاعلين فى المنطقة، سواء الولاياتالمتحدة أو الصين أو الاتحاد الأوروبى.