فى 1937 نشر الدكتور إسماعيل أدهم دراسة عنوانها «لماذا أنا ملحد؟»، ردًّا على دراسة للشاعر زكى أبو شادى عنوانها «عقيدة الألوهية»، وما إن صدرت دراسة إسماعيل أدهم حتى قام العلامة محمد فريد وجدى مؤلف الموسوعة الإسلامية بالرد عليها فى دراسة مطولة نشرتها مجلة «الأزهر» عنوانها «لماذا هو ملحد؟»، ثم قام الشاعر زكى أبو شادى بالرد أيضًا على أدهم بدراسة عنوانها «لماذا أنا مؤمن؟»، ثم جاء رد شيخ الإسلام مصطفى صبرى على الجميع، فى كل هذا نجد نموذجًا متميزًا للحوار الراقى المنطقى، الذى يتناول الحُجج ويفندها بطريقته وطبقًا لقناعاته وأدلته، دون تهجم شخصى، أو سِباب أو أوصاف أخلاقية، أو أى شىء ينال من صاحب الفكرة، نجد فقط حوارَ أفكار أو حِجَاجًا، أى مقارعة الحجة بالحجة، مع الاحتفاظ بكامل الاحترام والتقدير للطرف الآخر. وقد كان مقال الأستاذ محمد فريد وجدى نموذجًا فى الالتزام بأدب الحوار، إذ لم يخاطب إسماعيل أدهم إلا مسبوقًا بلقب «دكتور»، وحيث لم يطلق أحكامًا، ولم يخرج أيضًا بنتائج حول شخص الكاتب أو نياته، ولم يكفر أو يبدِّع أويفسِّق، بل كان يأتى بمقال الدكتور إسماعيل أدهم فقرة فقرة، ويرد على كل فقرة بعد أن يضعها كاملة فى متن دراسته. قمة الذوق والأدب، نموذج للحوار الملتزم بأخلاق الاختلاف، وأدب الخلاف. هذا النموذج من الحوار الراقى الذى يحترم فيه المتحاورون بعضهم بعضًا، والذى تعلو فيه الأفكار على الأشخاص، والذى يلتزم بالأدب العالى، والذى يهدف إلى تجلية الحقائق، والإقناع بالحجة والبرهان، والذى لا يهدف إلى نفى الآخر، أو نزع الشرعية الأخلاقية أو الوجودية عنه، والذى يعلِّم الناس كيفية الاختلاف.. كل هذا فى حوار يتعلق بجوهر الدين والعقيدة، بالإيمان والإلحاد.. هذا الحوار دار بين مؤمن وملحد، بين من يؤمن بوجود الله ومن ينكر وجود الله.. هذا الحوار الراقى ليس فى قضية سياسية خلافية، وليس حوار حول حادثة معينة أو موقف سياسى متغير تختلف حوله الآراء بطبيعته، وليس حول سياسة من السياسات أو نتيجة انتخابات أو مظاهرات أو أى أمور هى بطبيعتها متغيرة متبدِّلة لا تستقر على حال كما هو الوضع اليوم فى مصر والعالم العربى. هذا الحوار حدث منذ ثمانين عاما، وقد كان هو السائد على مر العصور، يعلمنا التاريخ أن يوحنا الدمشقى كان يقف على أعتاب الجامع الأموى فى دمشق ينتقد العقيدة الإسلامية بعد صلاة الجمعة، ولا يتعرض له أحد فى عز قوة الدولة الأموية وعنفوانها، ويروى لنا تراثنا أن الإمام الشافعى قال: «والله ما حاورت أحدًا إلا دعوت الله أن يظهر الحق على لسانه أو على لسانى».. كنا قومًا نبحث عن الحق والحقيقة.. فأين نحن الآن؟ هل حافظنا على هذه التقاليد؟ أم أضفنا إليها وعلمناها للدنيا؟ أم أننا تخلينا عنها وعدنا همجًا رعاعًا تسبق ألسنتُهم عقولَهم، وتعلو أصواتهم أكثر من حججهم ومنطقهم، ويتهمون من يختلف معهم، ويطعنون فى دينهم ووطنيتهم وأخلاقهم؟ ماذا فعل الزمان بنا؟ وماذا فعلنا بأنفسنا؟ وماذا فعلنا بالآخرين؟ من ينظر فى حالنا الآن، خصوصًا بعد الثورات العربية التى تحولت إلى عكس أهدافها، يجد أننا قوم آخرون، لا علاقة لنا بزمان الشافعى، ولا بزمان محمد فريد وجدى، رحمهما الله.. يجد أننا خرجنا من الغابة منذ قليل، كائنات لم يتم استئناسها بعد، مخلوقات متوحشة تتحاور بالسباب والشتائم واللعنات والاتهامات، ثم بالضرب بالأيدى والأرجل إذا كنا متعلمين ومثقفين، وتتحاور بالرصاص والسيوف وقطع الرقاب عند الجهلاء والحمقى والمغفلين. إن من يتابع المشهد الثقافى فى مصر والعالم العربى يجد الآتى: أولاً: هناك من يرفض الحوار جملة وتفصيلاً، ويؤمن أنه لا حوار حول الثوابت، وهو يحدد تلك الثوابت، ويتوسع فيها لتشمل الأصول والفروع والتفاصيل، بحيث لا يكون هناك أى نوع من الحوار إلا فى الأبعاد الهامشية التى لا يهتم بها العقلاء، أولئك المتعالون على الناس، لأنهم يظنون أنهم أسلم عقيدة وأصح منهجًا، يرفضون الحوار مع كل من يختلف معهم فقهيا أو عقديا أو مذهبيا، فلا حوار مع صوفية أو شيعة، ناهيك بمن يختلف معهم فى الدين، وهؤلاء يرون بقطع الرقاب، وهم كثيرون ينتشرون فى كل المجتمعات العربية، و«داعش» مجرد عينة عشوائية منهم، وما خفى كان أعظم شررًا، وأخطر مصيرًا. ثانيًا: هناك من يتخذ من الحوار وسيلة من وسائل العلاقات العامة، لا يؤمن به ولا يريد نتائجه، ولا يريد منه سوى تحسين صورته أمام الخارج قبل الداخل، لكى يتقى شرور الاتهام بالتطرف والانغلاق، ولكنه فى الحقيقة يؤمن أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ومن ثم لن يضيف الحوار إليه شيئا، وهذا التيار يلجأ إلى الحوار عندما يكون ضعيفًا، ويرفضه عندما يكون قويًّا، يستخدم الحوار إذا كان فى حاجة إلى شرعية الوجود، ويرفض الحوار إذا امتلك السلطة، ولعل تجارب الحركات الإسلامية قبل الوصول إلى السلطة وبعدها تقدم نموذجا لهذا الفريق فى السودان ومصر وليبيا... إلخ. ثالثًا: وعلى الجانب الآخر هناك نموذج آخر للتعالى بادعاء الحداثة والعصرنة، والانتساب إلى حضارة الغرب المهيمنة، وإن لم يكونوا منها ولا فيها، هؤلاء أكثر شراسة فى الاعتقاد بامتلاك الحقيقة، والتحكم فى حركة التاريخ، لذلك يأبون الحوار مع من يرونهم ينتسبون إلى عصور غابرة، ويصفونهم بالرجعية والتخلف والظلامية، لذلك يتعالون عليهم ويرفضون مجرد الجلوس معهم، ويتأففون من مناظرهم، وتظهر عليهم علامات القرف من ملابسهم ومظهرهم العام، هذا الفريق يتحمل مسؤولية كبيرة فى حالة الانسداد الثقافى التى تعيشها مجتمعاتنا، والتى كانت سببا من أسباب حالة التطرف والعنف التى أصبحت منتشرة بين الشباب. رابعًا: هناك فريق من الناشطين سياسيا من كل التوجهات الذين يقدمون نموذجًا للمناكفة بدلاً من الحوار، وذلك من خلال اتباع المنطق الدوّار، أى توليد سؤال من سؤال، أو سؤال من إجابة، أو القفز من قضية إلى أخرى بقصد إحراج الخصم وإرباكه وتشتيت ذهنه، والانتصار عليه فى حوار هو أقرب إلى جولات الملاكمة أو المصارعة، ولا علاقة له بالحوار، يعتقد هذا الفريق أنه ذكى وشاطر، وقادر على الإقناع بأى حجة يتبناها.. وعادة ما يقوم هذا الفريق بالكذب، واختلاق المعلومات، وتشويهها، واستخدام الحجج المنطقية فى غير مواضعها.. مثل مطالبة الخصم بذكر الأرقام والتواريخ والأسماء فى موضوعات ليس من المهم فيها ذلك، هذا الفريق هو الذى حّول الحوار إلى مناكفة لإحراج الخصوم، وتشتيت الجمهور، وخلق حالة من البلبلة يستفيد منها من يريد أن يجر الناس خلفه كالأغنام دون منطق أو تفكير.. هذا الفريق أصبح هو الأكثر انتشارًا فى المشهد السياسى المصرى والعربى بعد الثورات. خامسًا: وأخيرًا هناك نموذج اللوع، الذى يشبه أسلوب عوالم شارع محمد على، وهو النموذج الذى انتشر بعد خروج الحركات الإسلامية من السلطة فى مصر وليبيا، والذى أصبحت قناة «الجزيرة» القطرية رائدة فيه، بحيث لا تخلو برامجها ونشراتها الإخبارية من عينة من هذا النموذج الذى يقوم على الكذب والبهتان، والادعاء، والهجوم الشخصى، ونسبة كل النجاحات لأعوانهم والفشل لخصومهم حتى وإن كان الواقع والتاريخ يقول العكس، والتشكيك فى كل ما يقوله أو يفعله الخصم، وتقديم تفسيرات تخالف العقل والمنطق والإصرار عليها وتكرارها. من خلال هذه النماذج الخمسة انتقلت مصر ومعها العالم العربى من حالة الحوار إلى حالة من اللوع.. فمتى نعود إلى أدب الحوار وأخلاق الاختلاف؟