لم تسقط تدمر فقط فى يد داعش، لكن سقطت هيبة النظام السورى، وقاعدته العسكرية الكبرى، وواحد من أعتى سجونه، وقطعة مهمة من التاريخ البشرى، سقط تخت زنوبيا ملكة النساء، فى يد قوم يكرهون النساء، يبيعون الحرائر كجوارى ويذبحون الرجال كالأغنام ويدمرون المدن كفعل التتار، الغريب أن أحد قادتهم وهو أبو الليث السعودى، قدم وعدا لمنظمة اليونسكو التى انتابها الفزع أنهم سيحافظون على المدينة، فقط سيغطون التماثيل التى كانت تعبد بطبقات من الصلصال، وقد أسدلوا بالفعل على وجه زنوبيا قناعا كثيفا حتى لا ترى ماذا سيحدث لمدينتها عندما تقطع أشلائها وتباع فى سوق الآثار المهربة، إنها ليست مأساة تدمر وحدها، لكن سوريا الجميلة تتفسخ، إسرائيل تأخذ قطعة، وداعش تستولى على أخرى، وبقية مرتزقة الحروب يلتهمون البقية. تدمر هى الانتصار الأضخم لداعش بعد الموصل، ومشهد الجنود السوريين وهم يهربون كالفئران كان مخزيا، وسبقهم إلى الهرب المغاوير العراقيون، جميعهم انهزموا رعبا قبل أن يرفعوا السلاح، هربوا وتركوا ملكتهم وحيدة، المرأة التى تحدت الإمبراطورية الرومانية فى أوج قوتها، ومدت ملكها جنوبا لمصر وشمالا لجنوب تركيا، انتزعت من الرومان ثلث إمبراطوريتهم، كانت تدمر تتحكم فى طرق التجارة القديمة، تلتقى عندها القوافل القادمة من الهند والصين فى طريقها إلى روما، وكان الصراع ضاريا من أجل الاستيلاء عليها، وتحملت زنوبيا جزءا كبيرا من هذا الصراع، كانت جميلة ومحبوبة بقدر ماهى شجاعة، تتساوى فى جمالها مع سابقتها كليوباترا، وتتفوق عليها فى وفائها وقلة انشغالها بالرجال، صورتها المرسومة على وجه العملة تظهرها كساحرة شريرة، لكن المؤرخ جيبون الرومانى يصف أسنانها البيضاء كاللؤلؤ وعينيها الواسعتين كأن بداخلهما نارًا لا تنطفئ، كانت فى نحو العشرين من عمرها عندما أصبحت ارملة، فى عام 267 ميلادية خاض زوجها الملك أودنذيه قتالا ضاريا ضد الرومان، استطاع أن يردهم مؤقتا عن مدينته، لكنه فقد حياته فى المعركة، واعتلى ابنه الصغير العرش وأصبحت زنوبيا هى الواصية عليه، لكنها لم تكتف بدور الأم السلبية التى تخضع لتصاريف القدر، لكنها سخرت كل قوتها من أجل الانتقام لزوجها، واستطاعت أن تهزم القوات الرومانية وتستولى على آسيا الصغرى، وتواصل الزحف نحو مصر، كانت ملكة مثقفة تجيد الحرب وتجيد التحدث باللاتينية واليونانية والمصرية القديمة، ورغم أنه لا توجد نقوش بالعربية على جدران مدينتها فإن الطبرى كان يطلق عليها ملكة العرب، ويسميها «الزباء» ولها نصيب وافر فى الأساطير العربية، واعتبرها المسلمون بشارتهم للنصر على الرومان الذى تحقق بعد أربعة قرون. الإمبراطور الرومانى أورليان كان عدوها الرئيسى، استطاع أن يقود الفيالق الرومانية عبر آسيا الصغرى، والتقى بجيش زنوبيا المكون من سبعين ألف مقاتل بالقرب من أنطاكيا، وهزمها هذه المرة وجعل جنودها يفرون عبر الصحراء، وظل يطاردهم حتى وصل إلى أسوار تدمر وحاصرها، وكتب أورليان إلى زنوبيا يطلب منها الاستسلام مع وعده أن يبقى على حياتها، لكنها ردت عليه قائلة: أنت تطلب منى الاستسلام ناسيا أن كليوباترا فضلت الموت على أن تعيش عبدة للرومان، لكن الروايات تختلف حول نهايتها، يقال إنها حاولت الهرب إلى بلاد فارس لكنها وقعت فى قبضة الإمبراطور قبل أن تستطيع عبور الفرات، ومن ثم أخذها إلى روما حيث عفا عنها عرفانا بشجاعتها، وقد عاشت طويلا وتزوجت أحد أعضاء مجلس النواب، وهى نهاية لا تليق بشخصيتها، لكن رواية أخرى تؤكد أنها انتحرت قبل أن تقع فى يد الأعداء وهو أقرب لمنطق العالم القديم، لكن المؤكد أن تدمر دفعت الثمن، فقد أمر أورليان قواده بأن يذبحوا الجميع حتى الأطفال والنساء والشيوخ، ولا زالت تدمر تدفع الثمن حتى الآن. فقد قامت داعش بقتل المئات من المدنيين وذبحوا المئات من جنود النظام المرتعبين، رغم وعودهم بالمحافظة على المدينة، لكن يبدو أن الوعد يخص الحجر لا البشر.