أقامت أسرتا عثمان أحمد، 13 سنة، ومروة منصور 25 سنة ربة منزل، كانت حاملاً فى شهرها الخامس، وهما من ضحايا غرق "مركب الوراق"، خيمتين على كورنيش النيل الجديد بالوراق، انتظارًا لطفو الجثتين على المياه، وحتى يشكل وجودهما دافعًا للمسؤلين بأن "هناك بشرًا لازالوا مفقودين في بطن النيل منذ 14 يومًا"، ولم تنقطع خلالها دموع أفراد تلك الأسرتين على الفقيدين، ولسان حالهما: "لو كانوا ولاد مسؤول ولا حد كبير فى البلد كانوا طلعوهم فى لحظتها، دول بتقوم علشان قطة ولا كلب لكن الغلابة ملهمش قيمة عند الحكومة في البلد دي".. "التحرير" زارت خيمتي الحزن، ورصدت المأساة عن قرب. قلبي بيتقطع كل ما افتكر تصر الحاجة قاسمة جمعة، جدة عثمان وشقيقه "محمد"، على الجلوس فى خيمة أسرتها رغم كبر سنها، تبكي وهي تروي مواقف على حفيديها اللذين فقدتهما دفعة واحدة، فكانت تنتظرهما في شرفة منزلها، تتبسم وهي ترى "أعز الولد" قادمين إليها، "فتنهض إلى الباب ولا تفتحه وإنما تسأل من؟، لتسمع صوت عثمان: أنا يا ستي عثمان افتحى، فتقول له: لأ مش عايزين النهاردة، قبل أن تفتح الباب فيقبل يديها ثم يقبل خديها، قبل أن تضمه إلى صدرها"، وتنهمر دموعها بعدما أصبحت كل تلك المشاعر الدافئة مجرد ذكريات. وتابعت الجديت "قلبي بيتقطع كل ما أتذكر ذلك، عثمان ومحمد، وجدتهم وخالتهم نورا، وأولادها الإثنين علي ومحمد، غرقوا جميعًا في مركب الموت، رشا والدة عثمان كانت معاهم، وأنقذها الشباب وهي منهارة وتحيا بمهدئات ولسان حالها، يارتنى كنت مت معاهم". وأخرجت الحاجة قاسمة من جلبابها حافظة بها صورة لبطاقة عبد الفتاح السيسي، أكدت أنها انتخبته وأيدته وتأمل فيه خيرًا، لكنها تود أن تسأله "لماذا تستهتر الحكومة بالناس الغلابة؟، لماذا لا تجعل لأرواحهم وأجسادهم قيمة؟"، مكملة: "نفسي ندفن عثمان زي الباقيين، محمد أخوه طافت جثته قرب القناطر الخيرية، والباقين ظهروا على وجه المياه بعد 3 أيام، محدش وقف معانا، لو ابن حد مسؤل كانوا طلعوه، مش كفاية علينا الحزن على اللى ماتوا لازم يقطعوا قلوبنا على كبدنا اللى لسا فى النيل لا نستطيع دفنه". وقَدم والد عثمان، أحمد لنا ونحن نحادث الجدة المكلومة، وجلس صامتًا، وبسؤاله عن أمله في العثور عن جثة فلذة الكبد، رغم مرور 14 يومًا على الحادث، قال: "أنا عايز عظامه أدفنها، مش عايز أكثر من كدا لكن للأسف الحكومة مش فاضية لينا، مركب تغرق عليها خمسين بنى آدم، مصنع يولع بعماله، أطفال تموت بمحاليل جفاف مغشوشة، حسبنا الله ونعم الوكيل". وتامر أحمد، والد الطفلين "على" و"محمد"، وزوج والدتهما "نورا"، الذين غرقوا جميعًا و"دفن جثثهم"، وهو ينتظر مع ذوي "عثمان"، قال في بثبات: "رضيت بقضاء الله أن أفقد أسرتى، لكني لا أرضى بالظلم والإهمال، نعم اكتشفنا ضمن مفاجآت مصابنا أن المركب بأوراق مزورة يسير بنسخة مركب أخرى موجودة بمحافظة قنا دون رقابة، والمركب كان يقوده همجي جشع، حشد فيها 60 بنيآدم.. ضعف طاقته، مقابل 3 جنيهات للفرد، انشغل بالأغاني و"دي جي" العالي، وترك الناس تلاقي الموت، وبعدها ما ريحوش قلوبنا بدفن موتانا، زوجتي وأولادى وأولاد زوج أخت مراتي أحمد عثمان وجدة الأولاد، ربنا يلطف بحمايا اللي خسر زوجته وأولاده وأحفاده، ويصبرنا". عايز جثة مراتي وفي الخيمة المجاورة، يجلس رجال عائلة "منصور" التي خسرت 9 من أبنائها في "مركب الموت"، ينتظرون ظهور جثة "مروة" ربة المنزل التى لا يزيد عمرها عن 25 عاماً، وكانت حاملًا فى شهرها الخامس، يجلس زوجها هشام إبراهيم عبد الفتاح صامتًا ينظر إلى النيل، وحين تحدث بكى بحرقة وقال: "أنا يتيم الأب والأم، مروة كانت كل أهلي، هي وبنتي حنين، 3 سنوات، غرقوا هم الثلاثة.. لأن مريم كانت حامل، غرقوا وسابوني يتيم، أنا عايز جثة مراتي، عايز أزور قبرها وسط أحبابي وأطمن بوجودهم، يوم لما أحب أقرأ لهم الفاتحة أروح أقراها على النيل، ليه بيعذبونا ويموتونا كل يوم، أنا عايز أدفن لحمي.. عايز جثة مراتي". وعدد منصور محمد، والد مروة، أقاربه الغارقون، أحفاده يوسف ومحمد ومريم أيمن منصور، ونجلتيه ميادة، ومروة ونجلتها حنين، و4 أخوات لزوجة ابنه شرين جمال، المودعة حاليًا فى مستشفى العباسية للأمراض العقلية والعصبية لانهيارها التام بعد موت أولادها الثلاثة يوسف ومحمد ومريم، وأخواتها الأربعة هيثم، أحمد، نسمة، محمود، جمال. وبدلًا من الحديث عن جثة الأبنة الحامل المفقودة فى المياه، بدأ الحاج منصور محمد، الحديث عن زوجة ابنه شرين، كاشفًا أن والد الأطفال الثلاثة متوفي قبل عامين، و"شرين" كانت تعيش لأولادها الثلاثة، في منزل زوجها، ليكون الأحفاد تحت رعايته ينعم بقربهم، حتى جاءت مصيبة المركب التي راح فيها الأحفاد دفعة واحدة. ودعا الحاج منصور ربه قائلًا: "ربنا يلطف بيك يا شرين يا بنتي.. خسرتي إخواتك وأولادك جملة.. ومقدرتيش تستحملي اللي حصل، ربنا يصبرك يابنتى ويربط على قلبك من القهر اللي أنتي فيه". ويتابع الجد: الحمد لله تقبلنا قضاء الله وقدره فيما أصابنا، ولم يبق لنا كرجال إلا واجب دفن موتانا، أريد ابنتى مروة لأدفنها وأكرم مثواها، القطة بتتجن على ولادها فما بالكوا بمروة .. دى بشر وأم لبشر .. دى بنى آدمة .. دى روح .. دى كانت حامل. ويشكوا الحاج منصور من عدم وجود مجيب لطلبه الإنسانى، وأنه لا أحد يهتم ولا أحد يتابع مصابهم، ويطالب الدولة بالاستنفار لكرامة الإنسان، باستخراج جثة مروة وعثمان المفقودين، قائلاً إن الغطاسين ينزلون إلى المياه بطريقة بدائية وهم مربوطون بالحبال ولا يغوضون إلى مسافات طويلة، ويتابعون عملهم بروتين وفتور رغم هول الحادثة، وأغلب الجثث ظهرت بعدما تشبعت بالمياه وطافت على وجه النيل وليس بجهد حقيقى بذلته الأجهزة المعنية. وكشف عن ظهور جثة سيدة يوم السبت الماضى تبين أنها لسيدة مفقودة منذ قرابة شهراً، واعتبر ظهور تلك الجثة دليلاً على إمكانية ظهور جثة نجلته، وأنه سيتم انتشالها لو تم بذل جهد حقيقى فى البحث عن جثتها.