تحقيق: محمد عمدة فى أقصى شمال الشرقية، تقبع قرية إبراهيم حسن التابعة لمركز أولاد صقر، بعيدة، نائية، لا يلتفت إلى مأساتها أحد، يفصلها عن أقرب مدينة، وهى صان الحجر، طريق ترابى غير ممهد يمتد لنحو 15 كيلومترا، يعيش أهلها فى ظروف معيشية قاسية، فالمياه شحيحة، وتصل إليهم من محطات بعيدة، تظهر يوما وتختفى لأشهر. العطش يضرب أنحاء القرية منذ شهر رمضان الماضى، لا وجود لنقطة مياه للشرب أو الاستحمام أو التنظيف، بعض القرى المجاورة تتاجر فى المياه وتبيعها بالأمتار، الفقراء يلجؤون إلى الترعة الملوثة بمياه صرف المنصورة لقضاء حاجتهم، لأنهم لا يملكون أى بدائل، بينما يسرى المرض فى أجسادهم من سوء المياه المستخدمة. «التحرير» انتقلت إلى قرية إبراهيم حسن والقرى المجاورة لها، لتعايش معاناة الأهالى مع العطش والعجز وقلة الحيلة، والتقت هناك عددا من الأسر التى تعيش على مياه الصرف، وحاولت أن تتعرف على الحلول البدائية التى ورثها الناس عن أجدادهم لتطهير المياه، والأفكار المقترحة على الحكومة التى تسد آذانها لإنهاء هذا الوضع المأساوى، فقط وعود كثيرة لا تُنفذ لسنوات طويلة رغم بساطة المطالب وبديهيتها. أزمة القرى المحرومة بالشرقية، كما أُطلق عليها، ممتدة منذ سنوات طويلة، غير أن الحال ازداد سوءا كما يقول إبراهيم على حسن، مزارع، عندما حطم أهالى قرية مجاورة «محبس» الماسورة الموصلة للمياه من محطة ميت فارس التى تبعد عنهم بمسافة 45 كيلومترا، لأنهم يعانون من العطش أيضا، فى هذه اللحظة اختفت المياه نهائيا ولم تعد من يومها، «بنضطر نشترى الميه من قرية الجمالية التابعة للدقهلية.. المتر ب(30 جنيها)»، تأتيهم فناطيس المياه مُحملة بمياه لا يعرفون مصدرها، تُباع لهم، كلٌّ حسب قدرته على الدفع، أغنياء القرية يشترون ما يكفى منازلهم، الفقراء من الفلاحين يكتفون ب«جركن» بقيمة جنيه أو نصفه للشراب فى اليوم الواحد، «وطبعا مش كل الناس معاها وتقدر تجيب.. فى ناس بتشرب من الترعة». داخل قطعة أرض صغيرة مقابلة لمنزله البسيط، يقف المزارع إبراهيم إبراهيم محمد يعمل فى الأرض منذ الصباح الباكر ليجد قوت يومه، جسد الرجل الأربعينى واهن، المياه العذبة لم تُبل ريقه منذ أيام «مش لاقيين الميه.. والواحد خلاص هيطلع من هدومه»، يحكى عن ليلة العيد التى بات فيها باحثا فى كل مكان عن «جركن» مياه لكى يستحم أولاده الثلاثة بمياه نظيفة لارتداء ملابسهم الجديدة من أجل قضاء العيد «دوخت علشان ألاقى الميه.. يرضى مين ده؟ أحمى العيال بمية المجارى لا مؤاخذة؟!» يصرخ بغضب، بينما تجلس زوجته فى منزلهم منكبة على طست كبير مملوء عن آخره بمياه الترعة، تنظف داخله ملابس الأسرة «مش معقول هنضيع فلوسنا كلها على شراء الميه النضيفة»، تذكر بحزن رحيل ابنها الأكبر منذ عدة أيام إلى القوات المسلحة لقضاء فترة تجنيده دون أن يعثر على مياه للاستحمام. فى كل مكان بقرية إبراهيم حسن، طالما وجدت الترعة، تنتشر السيدات اللاتى يمسكن بأوانى الطهى، يغرقن ما بأيديهن فى مياه الترعة، وينهمكن فى تنظيفها، طقس صار ثابتا وتقليديا لديهن منذ ميلادهن، تقول أم عبده، 51 سنة، إنهن يخرجن كل يوم إلى الترعة فى ساعات ما قبل الغروب عندما تخف وطأة الشمس لغسيل الأوانى والملابس فى ظل غياب المياه العذبة لأيام طويلة «مش هنقعد نستنى الفرج وحاطين إيدينا على خدنا». أمام بيته الصغير بعزبة موسى عوض، التابعة للقرية، جلس جعفر عوض ذو الملامح الهادئة، وسط أسرته، يرتشف الشاى، يتندر على ذهابه إلى مكة لأداء العمرة فى رمضان تاركًا القرية دون مياه، وعودته، ليجدها على نفس الحال «أنا قلت عقبال ما أرجع يكون حلها ربنا والميه رجعت»، يشترى الرجل الستينى قسطًا غير كبير من المياه، لكن غرق الطريق الموصل بين بائعى المياه وعزبته أنهى أمله فى الحصول على مياه نظيفة «روحت عامل موتور يضخ الميه من الترعة لجوه البيت بدل ما البنات تطلع تملا كل شوية»، لكن لسوء حظه انقطعت الكهرباء عن العزبة منذ عدة أيام ولم تعد، يضحك الرجل «رضينا بالهم.. والهم مارضيش بينا». يقول عم جعفر إنه ورث عن أجداده حكمة تتعلق بتنظيف المياه لكى تصبح قابلة للاستخدام «نخلطها بشبة، ونغليها كويس، ونسيبها تبرد وتروق، ونتوكل على الله ونشربها»، غير أن إصابة نجله عوض، 37 سنة، بحصوات على الكلى والحالب منذ عدة أشهر، أكدت له أن النصيحة التى عمل بها لم تجدِ معه ولم تمنع المرض عن أسرته «الدكاترة قالوا له إن الحصوات بسبب الميه الوحشة اللى بيشربها». أمراض الكلى والكبد ودوالى المرىء الناتجة عن مرض التهاب الكبد الوبائى فيروس «سى» منتشرة بين أبناء القرية، نتيجة استخدام مياه الصرف فى الشرب والاستحمام والتنظيف، عيد على، 56 سنة، مهندس زراعى، يقول إن والده توفى فى عام 1970 بمستشفى دكرنس العام، بسبب دوالى المرىء، «وأنا كنت أتمنى الخدمة فى القوات المسلحة، لكنى حصلت على إعفاء بسبب نفس المرض»، ومنذ عدة أيام توفى شقيقه التوأم محمد بعد تدهور صحته بمرض الفشل الكبدى، وشخّص الأطباء كل الأمراض أن المياه غير العذبة هى السبب الرئيسى «لما جينا نصلى على أخويا صلاة الجنازة فى مسجد القرية الناس ماكنتش لاقى ميه علشان الوضوء». فى قرية حنورة المجاورة لقرية إبراهيم حسن لم يختلف الوضع كثيرًا، مزيد من البؤس، المرض ينهش أجساد الفلاحين الفقراء، والمياه صارت تزورهم فى أحلامهم فقط، لم يرَ هؤلاء طلة أى مسؤول للمكان منذ أن قدموا إلى الحياة، لا أحد يسمع إليهم، لا دولة تنتبه، رغم تعدد الشكاوى، مجرد أوراق تصل ولا تعود بأى رد، «الحلول موجودة بس سوء التنظيم وعدم اهتمام المسؤولين هو اللى سايبنا فى الوضع ده»، تخرج الكلمات من عبد الناصر عمارة، أحد أهالى القرية بغضب، تحدثوا إلى رئيس مجلس المدينة، زادهم بالوعود، لكن لم يفعل شيئًا، وهم لم يروا أى نتائج على أرض الواقع، كابوس يعيشون فيه دون بارقة أمل. الاتصالات بالمسؤولين لا تتوقف منذ الستينيات، فالقرية التى ساعد فى إنشائها إبراهيم حسن، واحد من أعيان البلد، بعد أن تبرع من أرضه وأمواله لبناء الجمعية الزراعية، والوحدة الصحية، ومدرسة، ومسجد، ومبان أخرى، أطلقت الدولة اسمه عليها إكراما لمجهوده، لكن القرية أصبحت تعانى من عدم وصول المياه إليها منذ قديم الأزل، كافح الرجل البار بأهل قريته من أجل وصول مشكلات القرية إلى الدولة، لكن لا أحد يهتم «كنا بنشرب من البلاليص والمقاتير.. اللى معاه يشترى واللى ماعهوش بقى ربنا يتولاه» يقولها إبراهيم على، حتى قدمت إليهم لجنة من وزارة البيئة فى عام 2006، شاهدوا واقع القرية، صعقوا من حالها، وأرسلوا تقريرا يفيد بخطورة الوضع، وضرورة إمداد المكان بالمياه العذبة، بعد تفشى الأمراض بين أهلها. فى 2008 قامت الدولة بإنشاء محطة لمياه الشرب فى منطقة حجير على بُعد 50 كيلومترا من القرى المحرومة من المياه فى شمال الشرقية، أمدتهم بكل ما يحتاجونه، وسط فرحة بالغة من الأهالى، «قولنا خلاص هنشم نفسنا بقى.. وهنشرب أخيرًا ميه حلوة قبل ما نموت»، لكن الفرحة لم تتم بعد وقوع ثورة 25 يناير عام 2011، حيث تعرضت المحطة ومواسيرها الموصلة للمياه إلى تعديات من قرى أخرى، ومع تزايد عدد السكان، انقطعت المياه عنهم، ولم يتبقَ سوى محطة ميه فارس ضعيفة الضخ التى تأثرت مؤخرا بفعل مجهولين فاختفت المياه نهائيا. فى الوقت نفسه وضع الأهالى منذ عام حلا لأزمة المياه، يتضمن إنشاء محطة على مساحة 5 أفدنة من أملاك الدولة فى منطقة أبو طاحون القريبة من أغلب القرى المحرومة من المياه، وتم تخصيص قطعة الأرض بناء على طلب من الهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحى، ومعاينتها من مجلس مدينة أولاد صقر وموافقته، وأصدر قرارا برقم 1077 لسنة 2014 بالأمر، لكن الدولة رفضت، ونما إلى علم القرية أن الهيئة قبلت إنشاء المحطة فى منطقة أخرى فى قرية بنى حسن، أو منطقة البكارشة، وكل منهما تبعد نحو 35 كيلو عن القرى المحرومة. المياه ليست المشكلة الوحيدة التى يعانى منها أهل القرى، فبديهيات الحياة لا تتوافر هناك، وحدة صحية لا يأتيها سوى طبيب يمضى ساعات قليلة ويختفى، فضلا عن عدم وجود طريق جيد داخل القرية، كلها ضيقة غير ممهدة، على المهدى، عضو مجلس مجلس محلى سابق، لا ينسى تلك الليلة التى أُصيبت ابنته بجلطة واضطر إلى حملها على أكتافه فى الشتاء 3 كيلومترات وسط الأمطار للوصول إلى أقرب طبيب، لأن الطريق من منزله لا يسمح بدخول أو خروج سيارات «فيه بنت فى القرية ماتت، لأننا مالحقناش نوديها الوحدة، لأن الطريق وحش جدا»، مما دفعه إلى تقديم طلبات بسرعة إعداد طريق ينقذهم من تلك المعاناة، وتم عمل مقايسة للطريق منذ عدة سنوات من قِبل مديرية الطرق والنقل، التى قدرت تنفيذه بأكثر من 8 ملايين جنيه، وفى مقايسة جديدة بعد طلب الحكومة تقليل النفقات، وصلت إلى 7 ملايين و68 ألف جنيه، ووعد المحافظ الجديد بسرعة البت فى الموضوع دون أن يحدث جديد. محمد إبراهيم حسن، عمدة القرية، يرى أن حل المشكلة يكمن فى إغلاق محطة حانوت التى تصب الصرف الصحى والزراعى فى ترعة أولاد صقر، والتى تم تنفيذها فى السبعينيات فقطعت مياه النيل عن القرية، وبناء محطة تكرير مياه فى قرية إبراهيم حسن أو قريبة منها، يقول: «اتكلمت مع مدير الرى بالشرقية ووعد بأنهم هياخدوا خطوة قريب، محاولاتى بدأت منذ عام 1996، ومافيش فايدة»، إلى أن انتهت مؤخرا إلى لقاء رئيس الشركة القابضة للمياه بالشرقية للتحرك من أجل مساعدة الناس، وترتيب اجتماع يحضره المحافظ السابق لوضع خطة مبدئية لإنهاء الأزمة، وفى انتظار الاستماع إلى الحلول المطروحة على الدولة. أهالى القرى المحرومة من كل أسباب الحياة يواجهون قلة الاهتمام بتقديم مزيد من الشكاوى والطلبات دون كلل أو تعب، لعل أحد المسؤولين يشعر بهم ويستجيب إلى حقهم فى الحياة، يرسلون إلى محافظ الشرقية تارة، وإلى رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف فى القاهرةوالشرقية تارة أخرى، وإلى رئيس مجلس الوزراء، لكن حتى الآن القرى متروكة للعطش والمرض والإهمال دون تدخل حاسم وسريع.