فى ركن من أركان الغرفة الباهتة نام الصغير نصف مستيقظ مفترشًا خرقة بالية متوسّدًا فخذ أمّه المتشحة بالسواد.. كان البيت ضيقًا خاويًا رطبًا يسمع فيه صدى الصوت بوضوح.. سحابة الحزن المخيمة عليه قهرت ضوء النهار البارع الذى يغمر أرجاء الكون ويتغلغل فى الديار المجاورة.. بشرود حدقت المرأة فى فراغ الغرفة.. تراقصت أشباحه أمامها.. توهمته بشاربه الأشيب الكث رافعًا فأسه بساعدَيه برجولة.. ضاحكًا ملء شدقيه فى أوقات صفائه حين كان يركن إليها مثل طفل صغير يثرثر لأُمّه عن أحداث يومه من الألف إلى الياء، وينزع عن كاهله عباءة الهموم ويفضفض لها عن عذاباته مع زوجته الأولى وعن جحود أبنائه منها -الرجال الثلاثة المتزوجين- كانت تشعر دائمًا بنبرة الموت تتسلل إليه حين يتهدج صوته ويتلوّن حديثه فجأة بالكآبة والحزن والخوف عليها وعلى صغيرهما من المستقبل.. لم تستطع المرأة الشاردة حجب حبات الدموع الساخنة المنهمرة من عينيها فاتخذت مسارًا مستقيمًا على وجنتيها وسقطت بإيقاع سريع متتالٍ على وجه الصغير، بسذاجة سألها الصغير عن سر هذه المياه المالحة المتساقطة على فمه ووجهه.. انتفضت المرأة مذعورة.. كان الباب يطرق بعنف.. دخل حشد من الرجال.. لمحت المرأة من بينهم أبناء زوجها الثلاثة يتوسطهم مقرئ القرية.. الثلاثة تبدو عليهم آثار النعمة.. رمقها أحدهم بحدة وصاح بلهجة ساخرة: «انتِ نايمة والاّ إيه؟.. انتِ ناسية إن النهارده أول خميس؟.. افتحى الشبابيك دى خلِّى نور ربنا يدخل». والتفت الثانى نحو الرجال.. وصاح مظهرًا رجولته: «اتفضلوا اقعدوا يا رجالة.. اقعد يا سيدنا الشيخ.. سمّعنا الله يفتح عليك»، فى حين تمتم الآخر بأسى مصطنع: «الله يرحمك يابا». جلس الرجال فى صحن الدار.. تلا المقرئ سورة «يوسف» بتأثر شديد.. تصاعدت أدخنة التبغ.. عربدت فى فضاء الغرفة.. تصاعدت أصوات الرجال مثنية على صوت المقرئ، بينما كانت رؤوس الثلاثة تدور بعنف.. انتهى المقرئ من تلاوته وتناول القهوة السادة.. انتفض الرجال بعد تناول القهوة.. بقى الثلاثة.. جلسوا صامتين، لكن عيونهم كانت تثرثر ورؤوسهم تدور بعنف.. لم تزد فترة الصمت اللزج على بضع دقائق.. كسر أحدهم حاجز الصمت.. وقف منتصبًا.. انفجر معلنًا عن رغبته فى تقسيم التركة -البيت وقراريط الأرض القليلة-.. لم يكن يدرى أنهم مثله يفكرون فى ما يفكر.. استرجع أحدهم نصائح زوجته.. تلا عليهم ما حفظه.. ادّعى الثانى أنه يمر بأزمة مالية بينما لم يجد الآخر ما يقوله فادّعى الحكمة وأن هذا واجب شرعًا.. كانت المرأة المتشحة بالسواد ساهمة كابية.. تصفَّحت وجوههم.. حدقت فى فضاء الغرفة.. كان الرجل ذو الشارب الأشيب الكثّ لا يزال غارقًا فى أحزانه.. كثر الجدل.. عَلَت أصواتهم دون مبرر رغم اتفاقهم المبدئى.. تداخلت أصواتهم.. ألغى بعضها البعض الآخر.. هربت أصواتهم من النافذة والباب إلى الشارع.. دخل المارة وأهالى الشارع وأهالى الشوارع المجاورة وأهالى القرية بأكملها.. عَلَت أصواتهم أكثر وأكثر.. نشب الشجار.. اشتبكت الأيادى.. سالت الدماء.. انزوت المرأة المتشحة بالسواد فى ركن قصى من أركان الغرفة المجاورة لتكمل بكاءها فى صمت ولتهدّئ من روع الصغير الذى كان يصرخ فى هيستيريا ويعبث فى بوله.