ذات غفلة اشتعلت النار في إحدى خيام الآزتيك وهم أقوام أصحاب حضارة عمروا المكسيك منذ آلاف السنين، وامتدت سحابات النار الملتهبة إلى الخيام المجاورة ومنها إلى الغابة حتى صار ليل القوم نهارا واستحال أمنهم رعبا. واستبد الخوف بالرجال والنساء والغلمان والدواب والطير والحشرات والهوام، وانطلق الجميع في ماراثون الخوف نحو المجهول، فلا يسبق جناح قدما ولا مخلبا. ونظرت البومة بعينيها الباكيتين مشدوهة نحو طائر الكوازال، وهو طائر ضعيف للغاية لا يكاد يراه إلا من يحدق به، يذهب إلى جدول قريب ويملأ منقاره بنقطة ماء لا تروي ظمأ ولا تطفئ غليلا فيعود ويلقيها على النار. صاحت البومة به أن نقطة الماء هذه لا يمكن أن تلجم غضب نيران تفرش ثوبها البرتقالي فوق كل الحقول وتصر على بسط الرماد فوق آلاف الأفدنة. فنظر إليها الطائر نظرة عتاب وقال في صوت متهدج: "أنا أفعل ما يمكنني فعله بكل ما أوتيت من قوة". لكننا اليوم نطلق سيقاننا للريح ونسلم قلوبنا للحزن وبلادنا للخراب رافعين أبصارنا نحو سماء توقفت عن الاستجابة لنا منذ أن نزلنا من فوق جبال الثورة لنحصد غنائم الخيبة والعار مخالفين أصوات ضمائرنا ووصايا خالقنا. نطلق اليوم شهواتنا لترعى في جنبات وطن لم يكد يقف على ساقيه في مواجهة ريح صرصر قادمة من الغرب والشرق والشمال والجنوب. ريح تريد أن تقتلع تاريخنا من خصلات الخرائط وتلقينا عراة على جنبات جنباته. قال هندي لحفيده ذات حزن: "أشعر بذئبين يقتتلان في صدري". فلما سأله الحفيد عمن يظن أنه ينتصر، قال: "بالطبع ينتصر الذئب الذي أغذيه". وها نحن نغذي شهواتنا الدنيئة في السيطرة على وطن عليل يكاد يلفظ أنفاسه فوق قارعة الخرائط دون أن تأخذنا شفقة بعزيز تاريخ وصارية كون، وننسى أن جميع الطرق لن تحمل أقدامنا المتعبة حين تضل بنا الأقدام ويضرب بعضنا رقاب بعض. أشعر اليوم بغصة في حلقي ونار تضطرم بين أضلاعي وآلاف الذئاب ترعي بين جنبي وأنا أرى المساومة على الوطن والشعب والأرض والعرض تخرج إلى العلن بين طرفين كان الأحرى بهما بناء الوطن بعد أن كدنا نخرجه من مأزق الارتهان للغريب والعدو والطامع. إلى متى يتم المتاجرة بأصواتنا وسواعدنا ومستقبل أبنائنا ونحن نكتفي بمشاهدة مباراة غير نزيهة بين فصيلين يدافعان عن مكاسب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ولا تاريخ ولا مستقبل؟. وهل ننتظر حتى تتحول المناورات - لا قدر الله - بينهما إلى صراع يذهب بكل آمالنا وطموحاتنا ويمنع أشعة النهار من ملامسة قلوبنا المتشحة بالسواد؟ يقول لورد بيرون: "المساومة نوع من إعلان الحرب وإن كانت بين أخوين". أليس في بلادنا الصامتة صمت القبور والمترقبة لمعركة وشيكة يخسر فيها المتصارعان، ونخسرها في الحالتين بعض من أهل المروءة يحسنون إلى وطن لطالما أحسن إليهم فيصلحون بين خصمين يحتاج إليهما الحاضر ويشتاق إليهما المستقبل ؟ .. ألا توجد في بلادنا الفسيحة عصافير صغيرة بمناقير صغيرة تحمل حبات صغيرة من أمل لوطن يستغيث ؟.