اشتهر السيد نويل هيليس بفصاحته وبلاغته كواعظ بأكبر كنائس نيويورك، كما ذات صيته كأديب وفيلسوف له عدد من المؤلفات التي عرفت طريقها إلى مثقفي أمريكا قاطبة، كما اشتهر الرجل بمحاربته لمظاهر الانحلال التي تفشت في مسارح الولاياتالمتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ومن الأمور الطريفة التي تعرض لها ذلك الكاهن في أول عهده بالعمل الكنسي بولاية إلينوي أنه احتاج إلى مراجعة طبيب، فأوصاه أبناء الأبرشية بالتعامل مع الدكتور هانسن الذي لا يتردد على الكنيسة إلا لماما لكنه معروف بمهارته النادرة في علاج كافة الأمراض المستعصية. وبالفعل ذهب هيليس إلى الطبيب هانسن مع أول وجع يلم به، إلا أن الطبيب غالى كثيرا في أتعابه، ولم تفلح محاولات الكاهن اللبق في إقناع الرجل بتخفيض أجره، وطال بينهما اللجاج حتى أدرك الطبيب بحنكته أنه لن يخرج من جيب الرجل الخاوي بدينار ولا درهم. عندئذ، لاحت في ذهن الطبيب العبقري فكرة مدهشة، فقال لهيليس: "سيدي، يمكننا أن نعقد معا صفقة جيدة. فأبعدك بما أوتيت من مهارات طبية عن الجنة شريطة أن تبعدني أنت بدعواتك عن النار قدر ما تستطيع." لكن الصفقات المشبوهة من ذلك النوع لا يقدر لها أبدا أن تكتمل، لأنها تعتمد على بيع زجاجات الوهم الفارغة في أكياس أنيقة ذات ماركات عالمية لأناس يعرفون محتوياتها ويرفضون أن يفتحوها أمام أحد. ويلجأ إليها الطرفان حين تنكسر القرون وتدمي الوجوه وتعجز المفاصل عن حمل أثقالها، ويرتمي الجسدان المنهكان فوق أقرب طاولة مستديرة ليشهر كلاهما قلمه ويضع خطة خروج آمن من معركة لن ينتصر فيها أحد على أحد ليخرج الجسدان ملتصقين بأي جدار يواري سوءاتهما. لكن بيع الأعمار في زجاجات الدواء كبيع الصلوات في ملكوت السماوات كبيع تذاكر نهائيات كأس لن يكتمل بين فريقين خرجا من الدور الأول فوق ملعب لا وجود له لأشخاص لا يحبون كرة القدم. البيع والشراء والتنازل والتخاذل مفردات عدمية في لغة المساومة لكن الطرفان يجيدان الصبر عليها خوفا من فرار لا يحتمل أو سقوط لا مفر منه. وفي المساومة جرح لكبرياء المتصارعين وشرخ مفاجئ لأنفين لا يريدان الانحناء. لهذا يفضل المساومون دائما أن يتوسط في الصفقة طرف ثالث يقول بلسانه ما يتمناه الطرفان ويعجزان عن البوح به. وفي المساومات يرضي المُتعَبان بأقل المكاسب شريطة أن يُحفظ لقرونهما حق التطاول على المخلوقات بعد الخروج المهين من مأزق وجودي لا مناص منه. لكن التاريخ يحتفظ بين جلدتيه السميكتين بمساومات مزرية تنازل فيها الرجل طواعية عن أذنه طلبا لرضا فتاة لا تكترث له، وقدمت فيها رأس نبي كمهر لبغي، وبيعت فيها أوطان كاملة مقابل كرسي لا يطيل عمرا ولا يحول بين جلد وعذاب، وتسفك فيه الدماء وتحفر الأخاديد وتسجر النيران مقابل شهوة سلطان لا يدوم لأحد. لكن كتاب التاريخ لم ينس أولئك الذين قبّلوا رؤوس الطواغيت كرها طلبا لإفراج غير مشروط عن إخوة في العقيدة أو الرأي أو المبدأ. شهد التاريخ على من ألقى حبات تمر تفصل بينه وبين الجنة لأنه لا يطيق صبرا عليها، ورأى التاريخ أناسا يحملون صغارهم فوق رقابهم ليتقدموا بهم بين فواصل الميادين لايبالون على أي جنب يكون المصرع ومن أي زاوية تكون الرصاصة التي لا تفرق بين رأس وساق أو بين عين وعين. لكن المساومات تبقى على كراهتها خيارا مفتوحا لمن يريد الخروج من متاهة تضيق بأصحابها كلما أخذتهم الحمية وارتفعت أصواتهم بهدير كموج البحر وتقدمت خطاهم بين فخ وفخ نحو أقدام تتقدم نحوهم على نحو لاإرادي طلبا لمواجهة لن يهزم فيها إلا وطن لم يجفف ثيابه بعد من بقع الدماء ورائحة البارود. تبقى المساومات طرفا ثالثا غير مرغوب وغير أخلاقي أملا في تغيير مسار قطار يتقدم نحو الآخر دون مكابح من رشد أو روية في شهوة صدام لن ينجو منه أحد. لم يبق إلا القليل من الحكمة قبل أن ينزع فتيل صراع غير مألوف بين طيور العش الواحد الذي يأمل أفراخه الصغار الذين لا ناقة لهم في صراع المناقير الهمجي ولا عنزة في حياة كريمة تستحق أن تحياها. حكيمة هي النداءات التي تعلي من شأن خيارات الزمن الردئية من أجل وطن يكاد يحترق بما فيه على من فيه لأجل من لم يكن أبدا فيه، والدقائق المتبقية لا تحتمل رفع شارب ولا إدارة ظهر أو جنب أو رفع عقيرة. المرحلة مرحلة خيارات تضيق وسماوات تتجمع فيها السحب السوداء من كل رابية لتنسج فوق رؤوسنا جميعا ظلمة تاه في دروبها أقوام آخرون وعادوا بعد سنوات من التيه بوجوه غير التي ذهبوا بها. بالله يا من تحملون المشاعل تريثوا قبل أن تقرعوا بالخطأ أجراسا للحرب تظنونها أجراس نجدة. وخفوا لنجدة أعشاش صغاركم يا حكماء القوم وأطفئوا بأفواه حكمتكم نيران الصدور التي تُحشد في زواياها الضيقة آلاف القنابل العنقودية كل صهيل قبل أن تقع الواقعة. أديب مصري مقيم بالإمارات هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.