لست من هواة الكتابة عن الماضى التليد، فالأمم التى ترى مستقبلها فى ماضيها سيكون مستقبلها نسخة مشوهة من حاضرها المعتم، لكن استفزنى «بوست» على صفحات «فيسبوك» عن مصر المَلَكية، وكان يمكن تجاوزه بسهولة، فشبكات التواصل تشبه دورات المياه يعبّر عليها كثير من الناس عن أفكارهم، كما يتخلصون بالضبط من فضلاتهم الشخصية، التى تعبّر عن نوع الطعام الذى تناولوه، لكن البوست كتبه معدّ فى التليفزيون المصرى، والفكرة لها رواج نسبى بين بعض الأوساط، وهى أن مصر قبل 23 يوليو كانت جنة الله فى الأرض، الجنيه المصرى أعلى قيمة من الجنيه الإسترلينى، وإنجلترا مدينة لمصر، والقاهرة من أنظف مدن العالم، وتنزل إليها الموضة قبل باريس أو معها.. إلخ. وهى فكرة تشى بأن صاحبها ومن يثق به جاهلان تماما بأحوال المصريين ولا يعرفان شيئا عن مصر قبل ثورة يوليو 1952، ولم يفهم أو يدرك الأسباب التى دفعت المصريين إلى أن يخرجوا فى الشوارع بالملايين ليؤيدوا حركة الضباط الأحرار، الذين لم تكن لهم أى جماهيرية فى ذلك الوقت، ولم يسمع بهم أحد، إذ كانوا كلهم مجهولين عدا اللواء محمد نجيب، ولم يسأل هؤلاء عشاق مصر الملكية سؤالا ساذجًا: كيف خرج المصريون يهللون وينضمون إلى حركة الضباط ضد «الجنة التى كان يعيشون فيها»؟ هؤلاء لا يعرفون أن مصر كانت منقسمة تمامًا بين قلة تتمتع بكل شىء تقريبا، موضة وسيارات وقصور وضِياع وعِزَب وأحياء نظيفة على الطراز الأوروبى، وغالبية تعيش فى غاية البؤس والفقر، 80٪ من المصريين يسكنون ريفًا معتمًا فى «دور» طينية بلا مياه نظيفة ولا كهرباء ولا خدمات، يمشون فى الطرقات حفاة «هدومهم» ممزقة، يفترسهم الفقر والجهل والمرض، حتى إن المشروع القومى لمصر فى الأربعينيات من القرن العشرين كان مقاومة «الحفاء»! ومَن شاهد أفلام مصرية واقعية أُنتجت قبل ثورة يوليو 1952 يكتشف الوجه القبيح للحياة، مثل «السوق السوداء» و«العزيمة» وأفلام نجيب الريحانى.. إلخ. ولخص آلان راى الصحفى النمساوى حياة المصريين فى ثلاث كلمات: حشيش وبقشيش ومعلهش، ونشر مقاله فى جريدة «دارمونات» عام 1951، تحديدا قبل ثورة يوليو بعام تقريبا، وقال فيه كلامًا مهينا لكل ما هو مصرى. كان عدد المصريين وقتها يقترب من 20 مليون نسمة، وبلغ دخلهم القومى 500 مليون جنيه، نعم 500 مليون جنيه، حسب إحصائية رسمية صادرة من وزارة المالية التى كان يرأسها فؤاد باشا سراج الدين، أى كان متوسط نصيب الفرد 25 جنيهًا فى السنة، طبعا لو وزعنا هذا الدخل بالتساوى بين المصريين، أى ما يعادل جنيهين وعشرين قرشا فى الشهر، ولا يستطيع خيال أى إنسان مهما شطح أن يتخيل كيف يعيش إنسان بثمانية قروش فى اليوم مآكلا وملبسا وسكنا وتنقلا وعلاجا، وهى تعادل 40 سنتا أمريكيا أى ثلاثة جنيهات الآن، قُلْ ثمانية جنيهات! لم تكن مصر جنة ولا نصف جنة لأهلها، كانت فقيرة معدمة إلا لأصحاب الحظوة، وكانت تسودها حالة من السخط العام من كثرة الأزمات التى تحيط بالمصريين، أزمة فى القوت وأزمة فى السكن وأزمة فى الغش الجماعى.. أزمة فى كل شىء تقريبا إلا المرور، فالسيارات كانت نادرة. وللأسف ما زلنا نعانى من هذه الأزمات حتى يومنا هذا!