تخيل حضرتك بعد 100 سنة من الآن، يقوم أحد المذيعين في برنامجه الجماهيري بعرض فيديو لرجل أعمال وهو ينزل من سيارته الفارهة باتجاه قصره، يوزع الابتسامات والمنح والعطايا علي كل من يقابله، وتتحرك الكاميرا باتجاه القصور المجاورة لتكشف عن الحدائق الغَنَّاء وحمامات السباحة وغيرها. يعرض المذيع بعد ذلك، فيديو آخر لأحد الأندية الكبيرة وبعض الشباب يرتدون ملابس جميلة أنيقة، ويتحدث كل منهم كيف قضي أجازة الصيف.. هذا يمتدح شواطئ سويسرا، وآخر يتحدث عن باريس، وثالث يحكي عن مغامراته في النمسا. بعد ذلك يعرض قصاصات من 'الأهرام' و'الأخبار' و'الجمهورية' تظهر خلالها تصريحات لبعض المسئولين، أحمد نظيف رئيس وزراء مصر قبل ثورة 25 يناير يتحدث عن انخفاض معدل البطالة إلي أقل من المعدلات العالمية، وارتفاع مستوي المعيشة إلي أعلي المعدلات العالمية، ويدلل علي ذلك بزيادة أعداد التكييفات في البيوت المصرية. خبر آخر منشور حول تقرير البنك الدولي، يشير إلي صدارة مصر قائمة الدول التي حققت أكبر تحسن في مناخ الاستثمار، ومانشيتات الصحف تقول: 'البنك الدولي: مصر تتصدر دول العالم في الإصلاح الاقتصادي' أو 'تقرير البنك الدولي يشيد بأداء الاقتصاد المصري'.. وغير ذلك. وأخيرًا يصرخ المذيع في وجه المشاهدين ويتحدث عن مبارك بكل فخر ويلقبه بفخامة الرئيس العظيم.. متحدثًا عن الرفاهية التي كان يعيشها المصريون في عصره!!. طالبت حضراتكم بأن تتخيلوا هذه المشاهد، فقد تخيلتها وأنا أتابع برنامج 'القاهرة اليوم' الذي يقدمه المذيعان عمرو أديب ورانيا بدوي، حيث راحا خلاله يستعرضان صورًا لمصر أيام الملك فاروق، ويتحدثان عن مصر الملكية، وكيف كانت الشوارع أنيقة آه والله أنيقة هكذا قالت المذيعة وكيف كانت تظهر الموضة في مصر قبل باريس، وكيف وكيف!!.. إلي آخر هذا الكلام الفارغ السطحي التافه الذي نسمعه من البعض كلما جاء الحديث عن مصر أيام الملك فاروق. وأتوقف عند أمرين راح المذيعان يتحدثان عنهما بفخر شديد: الأول أن مصر أقرضت بريطانيا مبلغًا ضخمًا يعادل الآن 29 مليار دولار أمريكي!!.. في إشارة إلي أن الحياة أيام الملك كان لونها 'بمبي'. ولمن لا يعرف أو وقع فريسة هذه الخزعبلات، فإن الديون البريطانية التي تقول الوثائق إنها 3 ملايين جنيه استرليني، لم تكن نتيجة قوة الاقتصاد المصري بل كانت قيمة ما حصلت عليه بريطانيا عنوة بالقوة من محاصيل وسلع وخدمات أو مقابل استخدام الأراضي المصرية أثناء الحرب العالمية أو علي سبيل التعويضات التي كان من المفترض أن تؤديها بريطانيا لصالح أهالي عشرات الآلاف من المصريين الذين انتُزعوا من أرضهم وساقهم الباشاوات مسلسلين في القيود، للاشتراك في الحرب، فماتوا ودُفنوا خارج مصر. وبعيدًا عن تنازل الحكومة المصرية عن هذه الديون كما نشرت جريدة الأهرام عام 1922.. أو عدم تنازلها، فالثابت أن مصر لم تطالب بها لمدة 30 عامًا قبل الثورة.. وأغلق الملف بعد تأميم قناة السويس. لقد كان الاقتصاد المصري قبل ثورة 23 يوليو متخلفًا وتابعًا للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية، يسيطر عليه بضع عشرات، أو مئات علي أقصي تقدير، وكانت نسبة البطالة بين المصريين 46% من تعداد الشعب، في الوقت الذي كان يعمل فيه الغالبية في وظائف دنيا سعاة وفراشين وكانت آخر ميزانية للدولة عام 1952 تظهر عجزًا قدره 39 مليون جنيه، في حين كانت مخصصات الاستثمار في المشروعات الجديدة طبقًا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفرًا. ظلم وقهر وسوء توزيع لثروات الوطن وغياب للعدالة الاجتماعية، نسبة الفقر والأمية بلغت 90% من أبناء الشعب المصري، ومعدلات المرض حققت أرقامًا قياسية حتي أن 45% من المصريين كانوا مصابين بالبلهارسيا، وغيرها من مختلف الأمراض التي تنتج عن سوء التغذية، هذا في الوقت الذي كان فيه بذخ وسفه الملك فاروق وأسرته والسيدة والدته وحاشيته مثار حديث صحف ومجلات العالم، ناهيك عن فضائحهم الجنسية. الأمر الثاني.. ظل المذيعان يتحدثان بفخر شديد، وجهل أشد، عن القاهرة وشوارعها النظيفة 'الأنيقة!' وحرص الدولة علي وجود أوبرا وسينمات وحدائق ومطاعم. للأسف.. 'الملكيون أكثر من الملك' غالبًا ما يتناسون أن القاهرة التي يتحدثون عنها، بل مصر بأكملها كانت حكرًا علي الباشاوات والبكوات والجاليات الأجنبية، وهؤلاء هم من كانوا يدخلون الأوبرا والسينمات ويستمتعون بالحدائق الغَنَّاء. وإذا ظهر أحد المصريين البسطاء في محيط هذه الشوارع، فهؤلاء من الخدم والحاشية ممن أنعم الله عليهم بنعمة العمل خادمين عند أحد الباشاوات!.. بل كانت هناك شوارع في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية حكرًا علي الأجانب يُمنع المصريون من دخولها، حتي لا يعكروا مزاج السادة الباشاوات والخواجات. تمامًا كما هي الآن الأحياء الفخمة المليئة بالقصور والفيلات، التي يصعب علي أمثالنا السكن فيها، أو ربما الاقتراب منها.. أحيانًا يدخلها بعض الفقراء من النقاشين أو النجارين أو السباكين، لأداء مهمة سريعة لكن سرعان ما يغادرونها. وأنا هنا لا أنكر أن الباشاوات كانوا يعيشون عيشة رغدة كريمة وكانوا يرتدون أحدث الموديلات قبل أن تظهر في أوروبا، بل كان منهم أهل الخير ممن يمنحون الخدم والحشم بواقي الطعام وبواقي الملابس وأي بواقي أخري. لكن السؤال: كيف كان حال غالبية المصريين.. عندما كانت تظهر الموضة في مصر قبل أوروبا؟!!. وهل يدرك من يتغنون بالعصر الملكي أن المشروع القومي في ذلك الوقت كان القضاء علي الحفاء؟!!.