سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
التحرير ميدان الثورة والزمن الجميل يتحول إلى «أطلال» السكان الأصليون تركوا منازلهم.. والمحلات العتيقة أغلقت أبوابها.. ولافتة ل«مقر شركة» لم يجد من يؤجره
«البلد دى كانت أحسن من باريس، الموضة كانت تنزل هنا قبل ما تنزل باريس، الشوارع كانت نضيفة زى الفل بتتغسل كل يوم، المحلات كانت فخمة والناس كانوا مؤدبين»، هكذا وقف «زكى باشا»، عادل إمام فى «عمارة يعقوبيان»، أسفل تمثال طلعت حرب ينعى وسط البلد، «بصوا على البلد اللى باظت»، قالها قبل سنوات من الثورة، لم يكن يعرف وقتها أن ما كتب فى أفضل المشاهد السينمائية سيظل لسنوات التعريف الأفضل لميدان التحرير والشوارع المتفرعة منه، «مزابل من فوق وتحت مسخ.. إحنا فى زمن المسخ». «ميدان التحرير»، أيقونة الثورات المصرية، تاريخ طويل حمله الميدان منذ أن أنشأه الخديو إسماعيل على الطراز الفرنسى، على شكل يتشابه إلى حد كبير مع ميدان «الشانزليزيه» فى باريس، بحيث تتلاقى فيه شوارع وسط المدينة، ليصبح ميدان «الإسماعيلية»، سمى كذلك، تيمناً بالخديو إسماعيل، أكبر ميادين العاصمة المصرية. لم يتنبأ أحد بأن ذلك الميدان بشوارعه المطلة عليه «طلعت حرب وقصر النيل ومحمد محمود وشامبليون والفلكى والقصر العينى ومحمد فريد والتحرير»، سيكون رمز الثورات المصرية على امتداد تاريخها، فقد شهد الميدان المواجهات والاشتباكات بين المحتجين والأمن مبكراً، بعكس ما يعتقد كثيرون. بدأت الاحتجاجات مع ثورة 1919 ثم مظاهرات 1935 ضد الاحتلال الإنجليزى، وفى السبعينات عادت المظاهرات مرة أخرى فى يومى 18 و19 يناير 1977 تجوب أرجاءه فى ثورة «الخبز»، ثم عادت إليه الاحتجاجات بعد سنوات عجاف، عاد «يناير» من جديد يحمل رياح التغيير فى 25 يناير، مضيفاً للخبز «الحرية والكرامة الإنسانية». ثم يأبى الميدان «ألا أن يتم ثورته»، فتحج إليه الملايين مرة أخرى منادية بإسقاط الإخوان، بعد عام من صعودهم إلى الحكم فى 30 يونيو 2013. عقب ثورة يناير، تحول ميدان التحرير إلى متحف مفتوح، وشاهد عيان على ثورة شباب مصر، تحمل جدرانه صورهم وترتوى أرضه بدمائهم، لم تنته الثورة بل استمرت، تعاند الجميع بصوت مسموع صداه، يحاول البعض إسكاته فيفشلون، لم يخرج المعتصمون من ميدانهم وبقوا يطالبون بحقوق من ماتوا فيموتون هم من جديد، مرة فى «محمد محمود»، وأخرى فى مجلس الوزراء، وثالثة فى محمد محمود جديدة.. هكذا عاش التحرير وشوارعه على مدار 3 سنوات؛ «ثورة مستمرة وشهداء خالدون وسكان غادروه طوعاً وكرهاً». قصر النيل سكان ميدان التحرير «الأصليون»، هكذا يعرفون أنفسهم بعد أن أصبح «الوافدون» على الميدان أكثر من أصحابه، عمارات بنيت فى «الرُّخص» كما يتحدث «عم أحمد»، بواب إحدى العمارات وسمسار العقارات «القديم»، فبعد 22 سنة خدمة قرر أن يعتزل المهنة التى اعتزلته أولاً، اكتفى الرجل الستينى بحراسة عمارة مصر للتأمين فى شارع قصر النيل، «الشقق هنا كانت عملة نادرة، وكل شركة أو مكتب كان يتمنى يلاقى حتة فى وسط البلد، لكن دلوقتى بقت خراب، الشقق هجرها أصحابها والشركات نقلت مكاتبها، ومفيش عمارة فى التحرير وشوارعه إلا ونص سكانها سابوها، واللى قاعد يا إما ثورجى أو ما عندوش حتة يروحها». عم أحمد النموذج المثالى لبوابى وسط البلد، بشرته السمراء تدل على أصوله النوبية، وابتسامته الودودة مع طلة أسنانه البيضاء كانتا كافيتين لتفتح معه قلبه المثقل بهموم «الشوارع الخلفية» فى ميدان التحرير، «شارع قصر النيل ده شارع الباشوات والبهوات من زمان، واحنا شارع مختلف عن وسط البلد كلها، شارع هادى كله شركات ومكاتب مفيهوش لا محلات ولا بياعين، والسكان اللى فيه ناس قوادم ومتربيين، دلوقتى الوشوش بقت غير الوشوش والناس اللى ماكنتش تقدر تعدى من قصر النيل بقوا زى رمل الشارع ما تعرفش تعدهم فيه». عمارة رقم 6 فى شارع قصر النيل تجاورها سينما ومسرح «مغلقان» حملا الاسم نفسه، العمارة وما يجاورها من عمارات ودار العرض ملك لشركة «مصر للتأمين»، دكة خشبية تعلو 6 سلالم رخامية، هنا يجلس عم أحمد ينتظر من يلقى السلام، «العمارة فيها 40 شقة، منها عيادات مقفولة والدكاترة ما بيجوش بقالهم سنتين، ومكاتب وشركات كلهم نقلوا من العمارة من يوم الثورة، و5 شقق سابوها أصحابها بعد اللى جرى للشارع». عداد عم أحمد للشقق الخالية بشارع قصر النيل توقف قبل ثورة يونيو بفترة طويلة، فتخلى عن قدرته على الاندهاش حين يسمع عن أسرة فلان بيه التى تركت شقتها وذهبت بلا رجعة، ولم يعد يجد من كلمات الدعاء إلا «حسبى الله ونعم الوكيل» فى كل مرة يجد محلاً جديداً قد أضيف إلى سلسلة «الدكاكين المغلقة». «شقة للإيجار تصلح للشركات»، لافتة ظلت معلقة شهوراً طويلة، بعدما تركها مستأجروها منذ أحداث محمد محمود الأولى، وحتى اليوم لا مجيب، «صاحب الشقة كان بيأجرها ب6 الاف، بقوا 2 وبرضه مفيش حد عاوزها». زيارات عم أحمد لبلدته فى أسوان لم تنقطع، لكن زيارات أهله له فى ميدان التحرير انقطعت منذ 3 سنوات، «زمان كنت باجيبهم وأفرجهم على وسط البلد زى السواح اللى بيروحوا بلدنا يتفرجوا على الكرنك وابوسمبل». تسير فى شارع قصر النيل فى وضح النهار وكأنك فى عتمة الليل تخشى من نهر الطريق، فالمركبات السريعة لا ترحم وسائقو «المكن» لا تأمن طريقهم، خطوات قليلة بالشارع ثم يعود عبق التاريخ يطل من جديد. طلعت حرب لا تكاد قدماك تطآن ميدان طلعت حرب حتى تراه، تفصله أعمدته عن حدود الشارع، «جروبى» ذلك المحل «العتيق» الذى أسسه الخواجة السويسرى «جاكومو جروبى»، الذى فضل ميدان طلعت حرب عن ميادين سويسرا، وفى عام 1909 افتتح محله الشهير الذى أصبح من المعالم القليلة التى احتفظت بأصالتها بين مستجدات التحرير، يخرج منه على عجل حاملاً بعض الأكياس، يتلفت حوله، ينتظر أن يهدأ مرور السيارات فيستطيع الرجل الذى تخطى ال90 من عمره المرور، بعد أن فرغ من عادته الأثيرة «قهوة الخامسة»، التى اعتاد عليها منذ دراسته فى بلاد الإنجليز، «الأستاذ الدكتور محمد سامى»، أستاذ جراحة المخ والأعصاب، الذى اختزل ميدان التحرير فى جملة قصيرة: «إحنا كنا بنخرج التحرير نتفسح.. دلوقتى بنخرج نقرف»، يسكن وسط البلد منذ حداثة عمره، عاش فيه وسيظل إلى موعد يعلمه الله، يتذكر شكل «بلاط الشوارع» حين كانت تغسله عربات المياه ليلاً ونهاراً، يتذكر حين سافر لندن ليكمل دراسته كيف كان يدعو الناس إلى زيارة «ميدان التحرير ووسط البلد لما كانت حتة من أوروبا»، لكن اليوم ليس كمثل أمس، ورأسه الشامخ لأعلى فخراً بمدينته تطأطأ ليرى جيداً أين يضع قدمه بعد أن اغتال الباعة الجائلون أرصفة التحرير وسطوْا على شوارعه، ولم يعد لأمثاله مكان إلا فى ذلك الكافيه: «جروبى ده من الحاجات النادرة اللى فضلت زى ما هى فى طلعت حرب، برغم إن أجمل من كانوا فيه قد رحلوا جسداً أو روحاً». الجراح العظيم لا يعرف كيف استطاعت الحكومات المتعاقبة أن ترى هذا الكم من الإهمال فى ميدان التحرير وما حوله ولا تفعل شيئاً: «الظاهر هما عايزينه يفضل كده عشان الناس تشاور عليه وتقول هى دى الثورة». يحكى المهندس عبدالجواد سيد عبدالمجيد عن التحرير، الذى رآه قبل عام واحد من الثورة واليوم لا وجود له: «الميدان والشوارع كلها اتغيرت، ما بقتش الدنيا دنيا». العمارة التى تعود إلى أواسط العشرينات، كما يؤكد «عبدالجواد»، ليست الفريدة فى فخامتها: «كل العمارات اللى هنا بالشكل ده، بس الأبواب الحديد المقفولة عليها مانعة الناس تشوف مصر اللى كانت»، يؤكد «عبدالجواد» أن طلعت حرب هو الشارع الوحيد الذى لم تحدث به مشاكل كثيرة إبان الثورات المصرية: «الشارع بطبعه تجارى، والعمارات بتتقفل بالجنازير ودخولها صعب، عشان كده ما حصلش فيه سرقة أو اشتباكات». محلات طلعت حرب على الرغم من خسارتها تأبى الإغلاق: «الناس هنا عندها استعداد تخسر، لكن محدش فكر يبيع محله. دى هوجة وهتخلص وكل حاجة هترجع زى الأول». ميدان التحرير بنهاية شارع طلعت حرب يظهر الميدان، تهل ذكرى الثورة من خيمة واحدة بقيت من أطلالها، ما زال صاحبها يتذكر شهداءها ويرصعهم على «شجرة الشهداء»، «الشجرة الورقية» تبكى وحدتها، فلا أشجار من ورق أخضر أو حتى بقايا جذوع ذابلة، والتحرير رمز الثورة وأيقونتها قد أصبح «أثراً بعد عين»، كما قالت «إيفون»، الموظفة بالمجمع، وهى تنظر إلى مقر عملها، متسائلة: «هو فين التحرير؟ اللى خد التحرير يرجعوا يا اخوانا»! عملها فى إدارة الجوازات بمجمع التحرير أتاح لها بقدر ما أن تعرف أن «التحرير ومجمعه» قد خلوَا من السائحين، وتفرغ الميدان لاستقبال الزوار الجدد: «عربات الخضار والفاكهة بقت بتقف على باب المجمع، والأكل المطبوخ والمعلب والفطير والمش والبيض والجبنة، حتى أنبوبة البوتاجاز بيلفوا بيها قدام المجمع»، تسبقها حسرتها على «صينية الميدان» التى كان يطل عليها شباكها فى المكتب، لم تعد تفتحه غالباً، مكتفية بمروحة قديمة: «لو فتحته مش هاعرف أشتغل من صوت البياعين». «ولد وبنت.. كل الجنينة ولد وبنت»، كلمات صلاح جاهين يتردد صداها فى حديقة عمر مكرم، التى كانت «حديقة العشاق» فى ميدان التحرير، مقاعد رخامية تشكو الصمت وأشجار تساقطت أوراقها وعطبت جذوعها فتخلت عنها الحياة، أعمدة إنارة لم تضئ منذ شهور، وصنابير مياه ربما لم تغلق منذ أيام فزاد ترسبها من الرائحة الكريهة التى تسود المكان، عمر مكرم ما زال واقفاً على قدميه فى تمثاله على مدخل الحديقة، ولكن لا أحد يلتفت إلى ذلك الواقف برداء بهت اخضراره وغيرت نقوش الثورة ملامح عباءته، كما غير قرار وزارة الأوقاف بإغلاق المساجد عقب كل صلاة ملامح مسجد عمر مكرم الذى أغلق أبوابه هو الآخر، فكان «الغلق» هو سيد الموقف لما تبقى من الزعيم عمر مكرم حديقة ومسجداً ومدخلاً أسمنتياً يسد الطريق. تترك الجانب الأيمن من ميدان التحرير بمجمعه وصينيته وباعته وحدائقه التى كانت، وتذهب يساراً حيث ما تبقى من شركات ومطاعم كانت يوما كخلية نحل، فتحولت مقاعدها إلى مقاعد شبه خاوية وأصبح الطعام مكدساً فى أوانيه ينتظر من يطلب ولا مجيب، «المشكلة مش فى الاكل اللى بيترمى ولا العمال اللى معظم المحلات استغنت عنهم وقعدوا فى بيوتهم، المشكلة إنك تبقى واقف فى شغلك وانت مش عارف هتقدر تكمل فيه لحد إمتى ولا إمتى صاحب المكان هيفضل عنده ضمير ويدفعلك مرتبك وهو بيخسر»، ياسر سمير رجل أربعينى يعمل فى عدة وظائف حتى يستطيع أن يعوض خسارته من قلة الشغل فى التحرير، يتذكر «أيام العز» حين كان الميدان ملتقى المحبين وقبلة الأسرة المصرية وجنة السائحين، ولكن دوام الحال من المحال، بحسب ما تنطق عيناه فى حسرة نظراته إلى الميدان: «الميدان الفاضى ده كان عامل زى خلية النحل، والمحلات كانت بتفتح 24 ساعة من كتر الشغل، دلوقتى الحال أهه، ما بين كل محل ومحل تلاقى محل مقفول». «نجيب محفوظ كانت فسحته كل يوم فى التحرير، الحمد لله إنه مات قبل ما يبقى التحرير كده، وإلا كان مات بحسرته»، يشير «سمير» بيديه إلى مقهى «على بابا» حيث كان يجلس «محفوظ» يومياً فى قلب الميدان يتصفح الجرائد، المقهى تغيرت ملامحه مرة وتغير اسمه كذلك، فحل «بلادى» محل «على بابا»، ورحل نجيب محفوظ قبل أن يشاهد «على بابا» يغلق أبواب مغارته المفضلة ويسدل ستائر النسيان على ذكرى «نجيب». ليس «على بابا» فقط أو «بلادى» هو المقهى الوحيد الذى أغلق أبوابه فهناك الكثير، والإغلاق لم يكن كذلك حكراً على المقاهى بل طال شركات السياحة ومكاتب الطيران والبازارات فى قلب الميدان: «مكاتب السياحة اللى فى الميدان معظمها اتقفل والباقى منهم بيشتغل على السياحة الداخلية والحج والعمرة، لكن عشان نفكر فى السياحة الخارجية يبقى عبث»، يؤكد المهندس أيمن الزنكلونى، الذى يعمل فى شركة رمسيس للسياحة: «كل زمايلنا اللى كانوا شغالين معانا قبل الثورة كلهم مشيوا، بعدها ماحدش منهم استحمل ياخد 1000 جنيه بعد خمسة آلاف جنيه». شركة رمسيس للسياحة، التى يعمل بها خمسة أفراد «سيلز سياحة» كل مكسبهم اليومى لا يتجاوز 500 جنيه، بمعدل أقل من عشر تذاكر يوميا: «الشركة بتقاوم الإغلاق مثل كل الشركات اللى حوالينا»، دواعى الأمن حولت شركات السياحة على الجانب الأيسر من الميدان إلى «محميات أمنية» بتلك الصناديق الحديدية التى أغلقت بإحكام على مداخل الشركات من أعلاها إلى أسفلها. لا يختلف عن شركات السياحة ما يجاورها من محلات، فمحل «الحقائب الجلدية» المجاور أصبح «حاله يصعب على الكافر»، بحسب مدام عبير فؤاد مالكة المحل، الذى يعود عمره إلى خمسين عاماً مضت، وما زالت صورتا نافورة الميدان وكوبرى المشاة تظهران بوضوح فى الصور الفوتوغرافية على واجهة المحل: «البازار اللى جنب المحل برضو بتاعنا، بس قفلناه، مالوش لازمة، وحتى محل الشنط مابقاش جايب همه، اللى كان بييجى يحجز سفر كان بيعدى ياخد شنطة، دلوقتى لا فيه سفر ولا شنط ولا سياحة من أساسه». محمد محمود تحول شارع محمد محمود إلى «ساحة الأشباح»، فالشارع شبه خالٍ، لولا ضجيج السيارات ما سمعت صوتاً لبشر، فالشبابيك المغلقة أعلى العمارات تدل على هجرة أصحابها، والتراب المتراكم على الأبواب الصدئة تدلك على أنه ما عاد أحد يفتحها، وتبقى وجوه الشهداء على جدران محمد محمود أكثر عدداً ممن تبقوا من سكانه، بحسب «الحاجة نجاة»، التى جلست فى مدخل إحدى العمارات تتابع عن كثب الشارع الخالى، تقرأ على جدرانه تلك الجملة التى تركها الثوار وكأنهم يواسونها فيما فعلوا: «إن كان حظى فى الحياة قليلها.. فالصبر يا مولاى فيه رضاك»، كلمات الدكتور محمد يسرى سلامة ترافقها فى جلستها فى المكتب الصغير الذى استأجرته منذ ثلاثين عاماً لتصوير المستندات، وبعد فترة توسع العمل وخرجت المكتبة الصغيرة إلى سلم مدخل العمارة وحوائطها، وخرجت السيدة الخمسينية من «خنقة» المكتب الصغير إلى «خنقة قنابل الغاز» فى محمد محمود. تحكى الحاجة نجاة عن جيرانها الذين فارقوها وغادروا محمد محمود إلى غير رجعة، بضاعتها التى كانت تبيعها وتقلص رزقها اليومى من 200 جنيه يومياً إلى 30 جنيه يومياً: «الأحداث اللى حصلت فى الشارع منعت حتى كورسات الجامعة الأمريكية اللى كنا بنُرزق منها»، الحاجة نجاة قررت أن تقضى باقى أيامها فى الشارع حتى ولو بقيت وحيدة وأغلقت كل المحلات أبوابها: «حتى المطاعم الأمريكانى اللى فى الشارع قفلوا المحل بالحديد والصاج، والزباين بييجوا يسألونى عن مكانها». فى عمارة الست نجاة 4 شقق مغلقة، لم يبعها أصحابها، فقط تركوها وسكنوا أماكن أخرى أكثر هدوءاً وأمناً وأقل غازاً: «المشكلة عند معظم اللى سابوا الشارع الغاز اللى كان بيخنق العيال وكبار السن، طب هيعملوا إيه؟». الشارع، الذى أغلقت معظم محاله، بقى على أطرافه المعلم «رمضان فارس»، كبير موزعى الصحف فى مصر، الذى رغماً عن سنوات عمره التى تخطت الستين ما زال مسيطراً على نصف سوق الجرائد فى القاهرة، له فى كل ميدان «فرش»، ولكن يبقى فرشه الأصلى فى ميدان التحرير، يحتفظ به على الرغم من المصاعب والخسارة التى ارتفعت إلى أقصى حد، فبعد حصيلة تبلغ 4000 جنيه فى اليوم لم يعد يستطيع أن يصل بمكسبه إلى 170 جنيهاً: «الفرش ده عدى عليه كل بهوات مصر؛ وزراء ومحافظين ونواب، مفيش حد فى البلد غير وجابته رجله لحد فرشتى فى التحرير»، يتذكر رمضان فارس التحرير الذى كان «حديقة ونافورة وحركة ما تهمدش»، الآن لم يعد هناك من أمنيات لذلك العجوز، صاحب الساعة الحمراء والشعر الأبيض على جبينه، سوى أن يدخل التحرير مرة أخرى فيجده كما كان: «خلف مسجد عباد الرحمن فى محمد محمود أقفلت 6 محلات ونحو 200 شقة خالية حول الميدان»، رمضان فارس رفيق درب الحاج محمد مدبولى وشقيقه أحمد -صاحبى مكتبة مدبولى- رفض أن يغادر التحرير ويستقر فى أى ميدان آخر: «أنا هافضل هنا لحد ما اموت، وهموت على أرضه مش هفارقها».