* “اقتصاد البقشيش ” اقتصاد موازي تشجعه الحكومة ورجال الأعمال للتملص من مسئوليتهم. * البقشيش تحول لوسيلة للحفاظ على السلام الاجتماعي، لكنه يخلق نوعاً من التبعية للأغنياء، ويهين الكرامة, ويبقي على دائرة الفقر. * ثقافة البقشيش, تجعلك تخطأ في فهم نوايا الغرباء في حال حاولوا مساعدتك, مما قد يتسبب في إحراج الطرفين. ترجمة – شيماء محمد : من العلامات المؤكدة لوصولي إلى مصر هو امتلاء حافظتي وجيوبي فجأة بالجنيهات المصرية للتعامل مع اقتصاد هذه البلد الذي يقوم على البقشيش, مما يجبرني على حمل العديد من النقود ذات الفئة القليلة لتسهيل تقديم هذه الكمية الهائلة من البقشيش. والبقشيش هو سمة منتشرة في الاقتصاد المصري, الملايين من المصريين يعتمدون عليه كمكافآت للتقاعد لبقائهم على قيد الحياة بعد تخلي الحكومة وأرباب العمل عنهم, مما أوجد نوعاً من الاقتصاد الموازى وهو ”اقتصاد البقشيش “. وحقيقة، إن الشخص المتهكم الذي بداخلي يسخر من فكرة اعتماد المصريين الفقراء على الحصول على البقشيش رغم الفقر المدقع والتهميش والإهمال وعدم التمكين. ففي بلد يعاني من ارتفاع معدلات البطالة والعمالة الفائضة يدفع المصريين البقشيش للجميع بداية من موصلي الطلبات, وعمال الجراجات المسئولين عن وقوف السيارات, وعمال محطات البنزين إلى أقل عامل نظافة في الحمامات الذي يعطى لهم المناديل لتجفيف أيديهم, وحامل الأمتعة الذي يحمل لهم الحقائب أثناء التسوق . وغالبا ما يتوقع الفقراء أن المغتربين المصريين سوف يتعدون الحدود ويدفعون بقشيشا أكثر من السكان المحليين, وهو ما يجعلني أصاب في نهاية أي زيارة لمصر بالإرهاق من دفع البقشيش زوجتي تتحدث العربية بطلاقة، وتستطيع التفاوض على السعر أفضل من المحليين، ولكن لغة البقشيش هي واحدة من اللغات التي لا تتقنها حتى أنها لم تهتم بمعرفتها. وعلى الرغم من سنوات الخبرة والوعي بالأهمية الاقتصادية للبقشيش، أكره ممارسته التي أدركها جيداً، وأرفض حتى فكرة دفعه حتى لا يكون ذلك مشاركة في تكريسه بالتواطؤ في هذه العملية, فعندما أدفع بقشيش بحجة أنه قاعدة اجتماعية, فأنا أساهم جزئياً في تكريسه. ولكن غالبا ما يجبرني الشعور بالشفقة حيال الفجوة الاقتصادية الواسعة التي تفصلني عن الشخص الذي أدفع له البقشيش, إلى التورط في هذا الاقتصاد, ففي مجتمع الحد الأدنى للأجور فيه هو 35 جنيه مصري (أقل من 4 دولار)، وفيه حماية العمال هي نكتة، وفيه شبكات التضامن الاجتماعي ممزقة, فالبقشيش يساعد إلى حد ما في إعادة توزيع الثروة، وفي أحسن أحواله هو تعبير غير رسمي عن التضامن والتماسك الاجتماعي. ولكن، وكما تقول زوجتي, فإن البقشيش ليس الأكثر كفاءة، ولا أعدل وسيلة لرفع العدالة الاجتماعية والاقتصادية. الإشكالية أيضاً, أنني أرى كمؤمن بالعدالة والمساواة، أن البقشيش هو مكافأة للتبعية، وإهانة للكرامة, وتشجيع لفكرة الخادم والسيد بين الغنى والفقير. وعلى الرغم من أن البقشيش قد يبعد عن حافة الفقر, ويحافظ على السلام الاجتماعي، فإنه بنظرة غير مجاملة يسهم أيضاً في الحيلولة دون خروج الفقراء من دائرة الفقر, عبر إعطائهم إشارات خاطئة توحي بأن البقاء على قيد الحياة الاقتصادية ليس متصلاً بعملهم الشاق ولكن برعاية أسيادهم, وجعلهم “أفضل حالاً”. ومن عيوب اقتصاد البقشيش أيضاً اعتماده على محوري التلميح والنفاق لحث الشخص على منح البقشيش, إلا أنه أحياناً, يحصل العامل على البقشيش دون الاضطرار إلى استخدام هذه الطرق. وهنا لابد أن أبدي شعوري بالفخر تجاه العمال الذين يتخلون عن البقشيش, رغم أن ذلك يعد بمثابة انتحار مالي للعديد من وظائف قطاع الخدمات المتدنية, ورغم وجود آخرين على استعداد لابتلاع كبريائهم على مذبحة البقاء على قيد الحياة الاقتصادية، وهذه الازدواجية تؤكد ضرورة أن يبذل الشخص الحساس الذي يعطى البقشيش قصارى جهده ليكون دقيقا ومراعيا عندما يعطيهم البقشيش. المفارقة, أن البقشيش يوفر أيضا لأرباب العمل في قطاع الخدمات فرصة للتملص من مسؤوليتهم تجاه عمالهم, وإلقائها على عاتق العملاء، وبالتالي فإن البقشيش يكون دوماً عاملا مهما لدفع سير العمل، إلا في الحالات التي يضمن فيها العامل الحصول على البقشيش . ثقافة البقشيش, تجعل من الصعب قراءة نوايا بعض الغرباء, وتقدير ما إذا كان الذي يفعلونه لك خالصاً وخارجاً من قلوبهم، أو محاولة لاقتناص الأوراق النقدية منك, والخطأ في قراءة الإشارات قد تجعلك ينتهي بك المطاف دون قصد إلى إهانة شخص غريب كريم أو أن تهان من جانب شخص يفهمك خطأ . ويمكن أن ينطبق هذا أيضا على أفقر الناس الذين تعرفهم شخصيا. أكثر ما يزعجك في الأمر, هو مدى انتشار ثقافة البقشيش والتي أصبحت مستوطنة في مصر على مدى العقود القليلة الماضية، فهي منتشرة خصوصاً في قطاع الخدمة المدنية والقطاع العام حيث الأجور الضعيفة، والتي يمكن للمرء أن يقول أن الحكومة خصصتها وجعلتها متاحة فقط لأولئك الذين يمكن أن يدفعوا البقشيش. وعلى الرغم من تورطي في بعض الأوقات بالمساهمة في تنمية هذا الاقتصاد الموازى بدفعي للبقشيش، وهو ما ترك لي إحساس مر وشعور بالاشمئزاز الذاتي, إلا أنني عادة ما أرفض بعناد الدفع مما يعرضني لمواجهة قائمة طويلة من العراقيل والبيروقراطية. أذكر أنني وزوجتي تعرضنا قبل بضع سنوات إلى قائمة العراقيل أثناء تسجيل زواجنا في مصر وهو ما أصابنا بالإحباط والغضب, ومع ذلك لا أزال أمتلك الشجاعة لمحاولة تسجيل شهادة ميلاد إبننا. الخلاصة, أنه على الرغم من أن البقشيش يعد في أحسن أحواله شكلاً من أشكال التكافل الاجتماعي قد يؤدي للتقليل من مخاطر الفقر, إلا أنه يؤدي كذلك إلى سلسلة من السلبيات فهو يضعف الحافزية على العمل ، ويخلق نوعاً من التبعية للأغنياء, و حتى انه ينشر الفساد التافه, ومع زيادة عدم المساواة فالبقشيش لن يكون قادرا على تفادى خطر تصفية الحسابات بين الذين يملكون والذين لا يملكون شئ. . مواضيع ذات صلة 1. ويكيليكس: إسرائيل أخبرت أمريكا في 2008 إنها ستدفع اقتصاد غزة للانهيار 2. خالد علي: “القومي للأجور” لم يفعل شيئا منذ تأسيسه سوى الحصول على “بدل الاجتماعات” 3. الصحة : 66 مصاب فى سقوط مدرج الجمهور في حفل عمرو دياب بجامعة المستقبل 4. صحافة القاهرة : الفك المفترس ومجلس عز وحادث عمرو دياب وإضراب المقطورات يسيطرون على المانسيتات 5. د. أحمد الخميسي يكتب عن كتاب مدحت الزاهد : ” تجارة الجنس “.. حول بيع اللحم والروح البشرية