كتبت العدد الماضي تحت عنوان 'الحنين إلي العبودية'، عن الأحكام السطحية التي يصدرها البعض هذه الأيام بحسن أو سوء نية حول الأوضاع في مصر قبل ثورة 23 يوليو، والعبارات التي يرددها هؤلاء من عينة: 'الموضة كانت تظهر في مصر قبل باريس'، أو 'بريطانيا كانت مدينة لمصر أيام الملك'، وغيرها من الخزعبلات التي نسمعها من وقت لآخر. الأمر الذي وصل باثنين من الإعلاميين.. عمرو أديب ورانيا بدوي، لأن يستعرضان صورًا للقاهرة قبل ثورة يوليو، ويتحدثان عن 'مصر الملكية'، وكيف كانت الشوارع جميلة، والحياة رغدة، لدرجة أن عمرو أديب راح يقول: 'عاش الملك فاروق جلالة الملك المعظم'!!. وضربت مثالا علي سطحية من يتغنون بحلاوة مصر وطعامتها قبل ثورة يوليو، وقلت: تخيلوا بعد 100 سنة من الآن، يقوم أحد المذيعين بعرض فيديو لقصور وفيلات رجال الأعمال في 'عهد مبارك'.. ثم يتحدث عن مبارك بكل فخر ويلقبه بفخامة الرئيس العظيم.. ويتغني بالرفاهية التي كان يعيشها المصريون في عصره!!. وكشفت لمن وقع فريسة الترويج للملكية، كيف كانت مصر التي يتحدث عنها 'الملكيون' حكرًا علي بضع مئات، من الباشاوات والبكوات والجاليات الأجنبية، ومُحَرَّمة علي غالبية الشعب المصري الذي عاني مرارة الظلم والقهر وسوء توزيع لثروات الوطن وغياب للعدالة الاجتماعية، حتي إن نسبة الفقر والأمية تعدت ال90%.. ومعدلات المرض حققت أرقامًا قياسية وكان أكثر من 45% من المصريين مثلا مصابين بالبلهارسيا. ودللت علي أن الاقتصاد المصري قبل ثورة يوليو كان متخلفًا وتابعًا للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية، تسيطر عليه طبقة النصف بالمئة بينما كانت غالبية المصريين مجرد سعاة وفراشين أو أُجرِّية.. وأشرت إلي أن آخر ميزانية للدولة عام 1952 أظهرت عجزًا قدره 39 مليون جنيه، في حين كانت مخصصات الاستثمار في المشروعات الجديدة طبقًا للميزانية سواء بواسطة الدولة أو القطاع الخاص صفرًا. بعد نشر المقال اتصل بي الكاتب الزميل عبد السلام بدر وطالبني بأن أفرد مساحة لحلقة ثانية، خاصة أن هناك من يروجون للملكية ومن ينخدع بكلامهم هذه الأيام.. كما دلني أحد الأصدقاء علي دراسة للمؤرخ الكبير الراحل الدكتور رءوف عباس بعنوان: 'الحركة الوطنية في مصر 1918-1952'.. وجدت من الضروري أن أستعين ببعض فقرات منها خاصة التي تضم أرقامًا ونسبًا وإحصائيات تؤكد صدق ما ذهبت إليه. يقول د.رءوف عباس: ترتب علي اعتبار الأرض مجالاً لاستثمار الأموال وليس مجرد أداة للإنتاج الزراعي، تجمع الأراضي الزراعية في أيدي شريحة ما دون 'النصف بالمائة' من أصحاب رؤوس الأموال من المصريين والأجانب علي حد سواء، وحرمان المنتج الحقيقي - الفلاح - من أداة الإنتاج الزراعي 'الأرض'. كانت نسبة المعدمين من سكان الريف تبلغ 76% عام 1937، وبلغت نسبتهم 80% من جملة السكان عام 1952. كانت البروليتاريا المصرية بشقيها: الريفي والحضري من أبشع الطبقات الاجتماعية معاناة من الأزمة الاقتصادية التي تفجرت في العالم الرأسمالي في نهاية العشرينات وامتدت آثارها إلي مصر. ويتضح من تقرير هارولد بتلر خبير مكتب العمل الدولي أن الأجر اليومي للعامل غير الفني في مارس 1932 كان يتراوح بين 7-12 قرشًا، بينما أجر العامل الفني كان يتراوح بين 20-30 قرشًا، وأجر العامل الحرفي بين 6-8 قروش، وبلغ أجر الحدث خمسة قروش في الأسبوع. تفاقمت المسألة الاجتماعية تفاقماً كبيراً، نتيجة سوء توزيع الثروات وغياب السياسات الاجتماعية.. ولا أدل علي ذلك من استمرار الهبوط في متوسط الدخل القومي للفرد من 9.6 جنيه في العام خلال الفترة 1935-1939 إلي 9.4 جنيه خلال سنوات الحرب العالمية الثانية علي أساس الأسعار الثابتة أي الأسعار الحقيقية مع استبعاد عامل الارتفاع الملحوظ في الأسعار. إذا أمعنا النظر في كيفية توزيع الدخل القومي لوجدنا 61% من هذا الدخل يذهب إلي الرأسماليين وكبار الملاك.. فقد قدر الدخل القومي عام 1954 بمبلغ 502 مليون جنيه، ذهب منه ما يزيد علي 308 ملايين جنيه علي شكل إيجارات وأرباح وفوائد بينما نجد متوسط أجر العامل الزراعي في العام لا يزيد علي أربعة عشر جنيهاً وفق إحصاءات 1950. إذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع تكاليف المعيشة لكان الأجر الحقيقي للعامل الزراعي لا يتجاوز ثلاثة جنيهات في العام، كما أن متوسط الأجر السنوي للعامل الصناعي لا يزيد علي خمسة وثلاثين جنيها، أي ثمانية جنيهات أجراً حقيقياً في العام الواحد. قدرت مصلحة الإحصاء عام 1942 أن ما يلزم للأسرة المكونة من زوج وزوجة وأربعة أولاد لا يقل عن 439 قرشاً في الشهر طعاماً وكساءً وفق الأسعار الرسمية لا أسعار السوق السوداء التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. ومع هذا فقد كان متوسط الأجر الشهري للعامل في عام 1942 لا يتجاوز 262 قرشاً في الشهر، أي أن الأغلبية الساحقة للبروليتاريا في المدن كانت تعيش دون الحد الأدني للكفاءات بمقدار النصف تقريباً، أما البروليتاريا الريفية فكانت أسوأ حالاً. في الوقت الذي ارتفعت فيه الأرباح الموزعة في الشركات المساهمة في مصر من 7.5 مليون جنيه عام 1942 إلي قرابة 20 مليوناً في عام 1946، ذهب أغلبها إلي جيوب الرأسماليين الأجانب وشركائهم الصغار من المصريين، كما ارتفعت إيجارات الأراضي الزراعية من 35 مليون جنيه عام 1939 إلي 90 مليوناً عام 1945 ذهب معظمها إلي جيوب كبار ملاك الأراضي الزراعية، فضلاً عما حققه هؤلاء من أرباح طائلة من وراء بيع المحاصيل التي أنتجتها أراضيهم التي كانت تزرع علي الذمة. الدراسة قيمة ودالة وتخرس كل الألسنة.. أدعوكم لقراءتها، فهي إحدي الدراسات المنشورة في كتاب: 'ثورة 23 يوليو 1952 دراسات في الحقبة الناصرية'، الصادر عن وحدة دراسات الثورة بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية. وأختتم بالسؤال الذي اختتمت به المقال السابق: هل يدرك من يتغنون بالعصر الملكي أن المشروع القومي في ذلك الوقت كان القضاء علي الحفاء؟!!.