كتب- وفاء صبري ومنة حسام الدين: ختمتُ شهر رمضان الكريم بزيارة شباب قضية مجلس الشورى فى سجن طرة، فى أول أيام العيد يوم الجمعة 17 يوليو الجارى، ذهبت للاطمئنان عليهم بعد توارد أخبار عن تعرضهم للضرب داخل محبسهم، تفاصيل متفرقة وردت على لسان أهالى البعض منهم، تفاصيل أثارت مشاعر الغضب والحزن والقهر داخل نفوس أهاليهم المنكسرة وأثارت الحنق والضيق لدى أصدقائهم وأحبائهم، فبادر الكثيرون بتقديم البلاغات لدى النائب العام والمجلس القومى لحقوق الإنسان للتحقيق فى واقعة التعدى عليهم وكلهم أمل فى رد الاعتبار للشباب والقصاص (أعتذر عن هذا اللفظ الذى أصبح سيئ السمعة) لهم ولكرامتهم.
ذهبتُ بصحبة السيدة الفاضلة والدة الشاب مصطفى يسرى المكلومة بسجن ولدها الوحيد ذى ال23 عاما، لأرى بنفسى كمَّ المعاناة والمشقة التى تتحملها هى وغيرها من أهالى بقية الشباب أسبوعيًّا لزيارة فلذات أكبادهم، التى انتُزعت منهم وزُجَّ بها فى سجن طرة، لا لذنب لهم سوى أنهم شاركوا فى وقفة سلمية للمطالبة بحقوق عادلة فى الدستور، كأن سجن أولادهم ليس كافيا لتكدير حياتهم فيضاف إليه عذاب المرور بإجراءات الزيارة الطويلة والمهينة كل أسبوع، والتى يمكن بسهولة تنظيمها لتحترم آدميتهم ولتكون أكثر رحمة ورفقًا بهم. يذهب الأهالى منذ الصباح الباكر إلى سجن طرة لتسجيل أسمائهم للزيارة، ثم انتظار ساعات طويلة فى قيظ وحر شديدين أمام باب السجن الحديدى لدورهم فى الدخول، وبعد ما يقارب ال5 ساعات من الانتظار الطويل المضنى يتم نداء أسمائهم للدخول والمرور بطوابير تفتيش طويلة، يلى ذلك انتظار آخَر غير آدمى لساعة أو اثنتين فى ساحة مكشوفة مكدسة يستطيعون بالكاد الوقوف فيها، تخللها سقوط شقيقة محمد عبد الرحمن (نوبى) من شدة الإعياء والتفاف الأهالى حولها لإسعافها، فى حين داومت والدة مصطفى يسرى على صب الماء فوق رأسها حتى تستطيع الصمود تحت حرارة الشمس فى جَلَد وإباء توارِى بهما عناءها، ثم يأتى نداء أسمائهم للمرة الثانية بعد طول انتظار للمرور بنقطة تفتيش أخرى لفحص كل ما جلبوه لأبنائهم، حيث يتم استبعاد ما لا تريد إدارة السجن دخوله للمساجين خصوصا الحلوى التى يعتبرونها رفاهية لا يستحقونها بالمخالفة للوائح السجون وفى تحدٍّ واضح للافتة وُضعت أعلى رؤوس الواقفين عند نقطة التفتيش تنص على السماح بدخول الحلوى والمأكولات وفقًا للمادة 422 من قانون ولائحة السجون، كأنها وُضعت خصيصًا لإغاظة الأهالى وتحديهم. وأخيرًا، يُسمح لهم بالدخول فى صالة مغلقة غاية فى القذارة تفوح منها روائح كل شىء منفّر فى الدنيا، لا أدرى إذا كان ذلك مقصودا إمعانًا فى إذلال المساجين وأهاليهم أم أن غياب النظافة أصبح شيئا مألوفا معتادا، ويدخل علينا أخيرا الشباب لننسى كل المعاناة ويحل محلها الإحساس بالقهر والعجز أمام حالهم وما يتعرضون له... منهم من انهار بالبكاء عند رؤيتنا وأخذ يسرد تفاصيل واقعة تعرضهم للضرب والتنكيل، ومنهم من حاول الاحتفاظ برباطة جأشه وأخذ يؤكد أنه بخير أمام أهله ربما خوفًا عليهم أو خوفًا من المخبرين والضباط المحيطين بنا من كل جانب للتلصص على كل كلمة تقال. مصطفى يسرى، 23 عاما، طالب بكلية آداب عين شمس، أتم امتحانات السنة الثانية داخل السجن، انهار من البكاء فى حضن والدته ولم أستطع أن أتبين ما حدث منه بسبب انفعاله واضطرابه، أما هانى الجمل ذو ال40 عاما المهندس الحاصل على ماجستير فى الاتصالات من جامعة ميرلاند واستشارى التدريب والإدارة، فبدا متماسكا كعادته وهو يحكى لنا تفاصيل ما حدث معهم يوم الأحد 12 يوليو الجارى، ومن فرط أدبه أخذ يشكرنا على الزيارة ويعتذر إلينا للمعاناة التى مررنا بها لزيارتهم، وتتميز زوجته «بسمة» التى تذهب دائما لزيارته بصحبة أولادهم الثلاثة أحمد «14 سنة» وكريم «10 سنوات» وعبد الله «سنتان»، بالقوة والثبات، تبتسم له وتحتضنه، ويتبادلان الابتسامات على الرغم من كل ما يمرون به، لكنها لم تصطحب أولادها الثلاثة هذه المرة لخوفها من أن يروا آثار الضرب على والدهم. بيتر جلال يوسف، ظهر بعصابة ونظارة سوداء على عينيه وجسد هزيل، لا يزال فاقدا لبصره دون علاج، دخل السجن وهو مبصر والآن أصبح لا يرى منذ دخوله السجن، عمره 20 عاما فى السنة الثانية بكلية الفنون التطبيقية، لا يستطيع حتى استكمال دراسته من داخل السجن بسبب فقدان بصره، ولم يُسمح له بالعلاج الذى يمكن أن ينقذه ويعيد إليه «نور عينيه»-فى حين كان غيره يُنقل بالطائرة إلى المركز الطبى العالمى لمجرد شعوره بالإعياء، ولكنه ليس فاسدا لينال هذه المعاملة الكريمة- حالته مزرية، وجَدّ عليه هذه المرة أن شفتيه كان بهما اعوجاج وتشنج واضح، لا ندرى إذا كان ذلك بسبب واقعة الضرب أو بسبب الضغط العصبى الذى يتعرض له، ويؤكد لنا ولوالديه أن ذلك بسبب ألم فى أسنانه حتى لا ينزعج أهله لما هو فيه! صلاح الدين الهلالى أو «عم صلاح» كما يلقبه الشباب، والذى بدأت الواقعة معه باعتراضه على كمية الطعام القليلة التى تُصرف لهم فأُخذ إلى التأديب وكُبِّلت يداه وراء ظهره طوال اليوم حتى صرخ من الألم، اعترض الشباب على ذلك لأنه رجل مريض، وأرادوا إيصال دوائه إليه وعَلَت أصوات بعضهم بالشكوى والتذمر ليكون جزاؤهم فى اليوم التالى حفلة ضرب موجعة للمجموعة كلها التى يجمعها عنبر واحد، من ضابط السجن وفرقة من المخبرين، ثم تم توزيعهم على عنابر المساجين الجنائيين المدانين بجرائم قتل وسرقة ومخدرات، ودون متعلقاتهم الشخصية أو حتى الفرش البسيط الذى ينامون عليه (لأنه لا يوجد أسرَّة داخل السجن)، وأُخذ للتأديب اثنان منهم هما: ممدوح جمال الدين حسن، ومحمد حسام الدين، تم تقييد أيديهما وعُلقوا منها على أبواب السجن تحت أشعة الشمس لساعات طويلة حتى أصيبوا بالإعياء، لأنهم طلبوا مقابلة المأمور للاعتراض على ما حدث، ثم أُخذ محمد عبد الرحمن (نوبى) ومحمد سامى إلى الحبس الانفرادى. ونحن نستمع منهم إلى تفاصيل واقعة الضرب والتنكيل بهم، وكلنا أسى ورغبة فى الانتصار لحقهم، وقع علينا إحباط وصدمة وشعرنا بالقهر والأسى عندما حكى لنا محمد عبد الرحمن (نوبى) 28 سنة، أنه لم يقرّ بحدوث واقعة التعدى والضرب والتنكيل لدى وكيل النيابة الذى أتى للتحقيق فى الواقعة داخل السجن مساء الأربعاء 15 يوليو، بناء على البلاغات المقدمة. «نوبى» الذى فوّضه الشباب للتحدث نيابةً عنهم لدى وكيل النيابة لم يقرّ بواقعة التعدى والتعذيب خوفًا وقهرًا، وذلك لأن إدارة السجن حين علمت بالتحقيق ساومت الشباب وهددتهم بالنقل لسجن وادى النطرون فى حال إثباتهم لواقعة التعدى عليهم ووعدتهم إذا أنكروا الواقعة بخروج زملائهم من التأديب وبعودتهم جميعًا إلى العنبر الذى كان يجمعهم قبل الواقعة ورد متعلقاتهم التى أُخذت منهم إليهم. شعرت بخيبة الأمل للوهلة الأولى وبخذلانهم لكل من تصدى للدفاع عنهم وسارع بتقديم البلاغات والشكاوى لنصرتهم، ولكن خلال كل أحاديثى معهم التى تخللها صراخ الحراس والضباط والمخبرين ونهرهم المستمر لهم ودفعنا إلى إنهاء الزيارة قبل انقضاء الوقت القانونى لها، شعرتُ بالأسى عليهم وأيقنت أننا لا نملك أن نلوم عليهم خوفهم من التنكيل بهم ورغبتهم فى العودة إلى عنبرهم الذى يضمهم منذ اتهامهم بالقضية حتى صدور الحكم عليهم. هم يتعلقون بأى أمل، لإبقائهم بعضهم مع بعض، حتى لو كان كاذبا، يرتعدون من التهديد بنقلهم خارج القاهرة لما فى ذلك من عقاب وقهر لهم ولأهاليهم، فكرة يرتعد لها أهاليهم كلما تم التلويح أو التهديد بها، نكبة الأهالى ومصيبتهم المشتركة جعلت منهم مجموعة تعضد ويؤازر بعضها بعضا، يلتقون فى الزيارات وينسقون المواقف والتحركات لمساندة أبنائهم فى ما بينهم، وجودهم بعضهم مع بعض فى عنبر 4 كان يهوّن عليهم ويضمن عدم اختلاطهم بالمساجبن الجنائيين، مجموعة حظها السيئ وغيرتها على الحق وتصديها للدفاع عنه وعن حقنا جميعا فى محاكمات مدنية عادلة ساقها إلى هذا المصير المؤلم، بادَروا بالتعبير سلميًّا عن رأيهم ووقفوا للمطالبة بدستور يكفل الحقوق للجميع لينتهى بهم الحال فى سجن طرة، حرية مسلوبة وكرامة مهانة وأهل وأحباء وقفت حياتهم عند زيارتهم كل أسبوع وتفرغوا للهاث وراء المحاكم والنيابات والمسؤولين ومجلس حقوق الإنسان سعيًا وراء براءتهم تارة، أو للشكوى من مهانتهم والتنكيل بهم داخل السجن تارة أخرى، أو النضال للسماح بدخول أبسط مستلزمات الحياة لهم لتسهيل معيشتهم داخل السجن. كنا نناضل من أجل دخول الكتب والحلوى والجرائد اليومية لهم، ونحن الآن سنناضل حتى يعودوا كما كانوا فى عنبر 4 الذى يضم 19 مظلوما منهم، ولأخذ حقهم الذى أُجبروا على التنازل عنه. نحن نستطيع أن نفعل ذلك نيابة عنهم لأننا ننام فى بيوتنا ولا نقع بين سندان الضرب والإهانة ومطرقة التأديب والتغريب لسجن وادى النطرون، على الأقل إلى الآن. أين نحن منهم لنلومهم أو نصدر أحكاما عليهم؟ كل عيد وأنتم طيبون، كل عيد وأنتم أحرار: هانى محمود الجمل، ماجستير هندسة اتصالات جامعة ميرلاند واستشارى إدارة- أحمد عبد الرحمن محمد، الجدع الذى اتُّهم فى القضية لدفاعه عن بنت تعدَّى ضابط عليها بالضرب- ممدوح جمال الدين حسن، طالب بالسنة الأولى بكلية الحقوق- ييتر جلال يوسف، طالب بالسنة الثانية فنون تطبيقية فقد بصره بعد دخوله سجن طرة- عبد الرحمن سيد محمد، طالب فى كلية الإعلام- د. يحيى عبد الشافى طبيب بشرى وله 5 أبناء، ابنه الأكبر محمود يحيى عبد الشافى محبوس معه ويعانى من مرض السكر ويعمل مدير مبيعات فى شركة تجهيزات طبية-محمد سامى مختار- مصطفى يسرى مصطفى، طالب بآداب عين شمس- محمد حسنى إبراهيم (جبرتى وموثِّق الثورة)، له طفلان ومدير لشركة خاصة لبرامج الكمبيوتر- محمد الرفاعى الباز، طالب فى كلية التجارة جامعة طيبة- محمد عبد الرحمن محمد (نوبى) 28 سنة، يعمل فى مجال الدعاية والإعلان- محمود محمد عبد العزيز، اسم الشهرة «ياسين محمد» طالب ثانوى- عبد الرحمن عاطف سيد، طالب بمعهد الزراعة بشبرا الخيمة- عبد الحميد محمود قاسم، مرضَ داخل السجن- عبد الله جمال زكى- محمد حسام الدين محمود (كالوشا) من مصابى الثورة- أحمد محمد نبيل- صلاح الدين الهلالى (عم صلاح)، مدير شركة خاصة. ..والعيد في الشيخ زويد من غير "لمّة" الأحباب منذ الأول من يوليو الجارى، وبعد أن شهدت «الشيخ زويد» واحدة من كبرى الهجمات الإرهابية، تغير حال المدينة كليا، واتضح ذلك مع عيد الفطر المبارك، حيث سيطر شبح الخوف على من تبقى من سكانها، وفقد الأهالى الإحساس ببهجة العيد بسبب نزوح الكثيرين إلى مدينة العريش خوفًا من تكرار أى عمليات إرهابية جديدة. «الناس لا بقت بتفكر فى عيد ولا فى إجازات، كل همنا هنعيش إزاى»، تقولها بحذر «منى»، ابنة منطقة «الشهاوين»، التى اضطرت بعد هجمات «الشيخ زويد» الإرهابية إلى الانتقال إلى العريش على الرغم من بقاء والدها فى الشيخ زويد، معترفة بأن أغلب عائلات «الشيخ زويد» فضلوا نزوح النساء والأطفال فقط إلى العريش. «منى» التى عادت إلى مدينتها بعد سطوع شمس اليوم الأول لعيد الفطر حرصًا على تجمع العائلة فى ذلك اليوم، وصفت عيدها هذا العام بأنه «عيد حزين يفتقد لكل معالم الفرحة»، وتتذكر أيام العيد فى السنوات الماضية، قائلة: «زمان كانت وقفة العيد أحلى يوم، الأطفال الصغيرين يجمعوا بعض ياخدوا العيدية ويروحوا يشتروا ألعاب، دلوقتى كل واحد فى مكان والله أعلم إمتى نتجمع تانى». «بأى حال عدت يا عيد» جملة لا تفارق لسان «منى»، وهى التى كانت معتادة سنويا على إهداء أطفال منطقتها بالونات بعد صلاة العيد، والتجمع برفقة نساء العائلة لتحضير العدس واللبن لاستقبال الجيران، وتستعيد «منى» بذاكرتها أيام أن كان للعيد مذاق خاص فى مدينتها «يا الله، العيد ده كان ليه طعم تانى. خلال أيام العيد الماضية، لم تتمكن «منى» من الصلاة فى مسجد «المصطفى» الملاصق لمنزلها على الرغم من أنه لم يتأثر بأى هجمات إرهابية، فكل همها كان الحفاظ على تجمع عائلتها الصغيرة، خصوصًا أن أزيز طائرات الجيش المصرى تحاصر المدينة منذ اليوم الأول للعيد. «الجيش نادى إننا نرجع، لكن مفيش شوية وسمعنا وقوع قذيفة على منزل ومات خمسة أفراد»، تقول «منى» وهى تخشى أن تؤدى العودة إلى المدينة فى الوقت الحالى إلى فقدان أحد أفراد عائلتها، «إحنا منطقتنا من أكثر المناطق اللى اتضررت فى الأحداث الأخيرة، وبسبب اللى عِشناه باطلب من الدولة توفر خدمات فى مستشفى الشيخ زويد، وتوفر تعويضات للأهالى اللى منازلها ومحلاتها اتدمرت بسبب التفجيرات، الناس اللى مشيت من المدينة فجأة لقوا نفسهم مضطرين يأجروا شقة ويدفعوا إيجار ومصاريف مش عارفين هيجيبوها منين». أما فى حى «البحبوح» فحاول من تبقى من الأهالى خلق بهجة العيد، لم يستسلموا لمظاهر الخراب التى تحيط بهم، ولم يفقدوا الأمل فى غد أفضل، فبعد أن تجمع أهالى الحى لصلاة العيد فى مسجد «الفاروق» ، تعمد الشباب إدخال البهجة على نفوس الجيران بتوزيع الحلوى والفشار على الصغار والكبار. وأمام طاولة امتلأت بالحلويات ومزينة بالبالونات وقف أهالى حى «البحبوح» للحصول على نصيبهم من الفرحة، حاولوا أن يتم توزيع الحلويات بالتساوى على الجميع، وذلك فى الوقت الذى كانت فيه طائرات الجيش المصرى تحلق فى سماء المدينة، ودوى الرصاص الحى التحذيرى يتداخل مع أصوات ضحكات الأطفال والشباب الذين حاولوا بمجهود بسيط التمتع بأيام العيد. أيام العيد فى «البحبوح» لم تختلف كثيرًا عن حى «الهشاوين» إلا فى ما بتعلق بنشاطات الأهالى، فمسجد الحى لم يستقبل فى أول أيام العيد، حسب رواية أحد الأهالى، سوى عدد قليل من المصلين لم يتجاوز المئة، بسبب نزوح أغلبهم إلى مدينة العريش، وذلك فى الوقت الذى أُغلقت فيه بعض مساجد الأحياء الأخرى لعدم وجود مصلين، مما أجبر أبناء الأحياء المجاورة على قطع المسافة إلى أقرب مسجد به تجمع للصلاة.