"إنك لن تشعر بالضرب حين تكون حراً أن ترده، لكنك تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه، ولا حرية لك ولا قدرة لديك على رده.. هنالك تجرب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب.. لا مجرد ألم موضعي للضرب.. إنما بألم الإهانة حين تشعر أن كل ضربة توجه إلى جزء من جسدك توجه معها ضربة أخرى إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك، ضربة ألمها مبرح لأنها تصيب نفسك من الداخل.. ذلك النوع من الضرب، حين يتحول المضروب إلى أنقاض إنسان مذعورة، أنقاض تتألم وبوعي تحس نفسها وهي تتقوض إلى أسفل وبإرادتها الخائفة تمنع نفسها من أن ترد، وتحول فيها الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر، وكأنه إنسان يتهدم إلى أعلى، يسعده الألم الذي يحدثه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة وبإرادة أيضاً يقتل الاستجابة البشرية للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم والتقوض، وبلوغه هو أخس مراحل النشوة المجرمة ... وعندما يصبح المضروب في يومٍ ما هو الضارب، يكون الشعور مضاعفاً" .... من رواية "العسكري الأسود" ل يوسف إدريس - هل رأيت تقرير الطب الشرعي عن سبب وفاة محمد الجندي ؟ هكذا فاجأني فور أن رأني أحد الأصدقاء من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين بعد أن قرأ مقال لي في الإسبوع الماضي عن ما حدث ل محمد الجندي بعنوان "الشاب الذي أسقط الرئيس".. وهو يعاتبني على تسرعي في إفتراض أنه قتل بسبب التعزيب على يد ضباط وجنود الشرطة. - نعم رأيت تقرير الطب الشرعي ل محمد الجندي .. كما رأيت من قبل تقرير نفس الطب الشرعي ل خالد سعيد. هكذا أجبته وأنا لا أبالي من رد الفعل المتوقع منه، فقد تعودت على مثل هذا النقاش الذي يتحول إلى جدال لا يثمن ولا يغني من جوع، كعادة كل الإخوان والمحبين لهم الذين تجادلت معهم بعد الثورة، نبدأ بحوار راقي ثم يتحول بأنكار الأصوات إلى جدالٍ من أجل الجدال فقط بعد أن يفشل في إقناعي بحجته.. إن كانت لديه حجة. وقف الزمن عندي عند تلك اللحظة وعاد بي إلى الوراء بعيداً في تاريخ علاقتي بصديقي، مواقفاً وأخلاقاً وفكراً.. حين فاجأني هذه المرة من رد الفعل الذي لم أكن أتوقعه، ولا أعلم إن كانت مفاجأتي بسبب أنه صديقي منذ أمدٍ بعيد أبعد من منتصف العمر بقليل وإذ فجأة شعرت أني لا أعرفه، أم لأن خيالي عجز عن توقع مثل هذا التحول في ضمير الإنسان لدرجة تجعلك أنك تشك في إنسانيته. - هذه هي الحقيقة.. خالد سعيد كان يتناول "البانجو" ومحمد الجندي كان يتناول "التيرامادول" بغض النظر عن أن أول الله يرحمه ويغفر له، فقد كان بصورة أو بأخرى سبباً في إندلاع الثورة على ولكن الأخير عليه من الله ما يستحق. هكذا كان رد الفعل الذي هز كياني، وزلزل الأرض من تحتي. - لم يكن هذا موقفك من خالد سعيد قبل الثورة.. ولم تكن تحكم على الأشياء من منطلق المنفعة، فقد كنت ترى الظلم وتسأم منه.. ماذا حدث لضميرك هل تحول مع من تحولوا في هذا البلد الذي كتب عليه الظلم باسم الأمن والأمان تارة وباسم الشرعية والشريعة تارة أخرى ؟! .. ألم تعد تهتز من حكايات الأطفال والصبية الذين تم تعذيبهم وسحلهم واغتصابهم ؟! .. ألم تعد تشعر مثلنا أن هذه جريمة موجَّهة إلينا جميعاً ؟! .. لماذا كنت متوحداً معي فى الدفاع عن حقوق المظلومين في عصر مبارك وتتألم من مشاهد سحل وتعذيب وخطف المتضامنين معك ضد إعتقال وتعذيب المنتميين لجماعتك آن ذاك ؟! .. هل كنت تقف في وجه الظلم أم في وجه الظالم فقط ؟! هل نسيت الجملة التي كنت ترددها "يعرف الرجال بالحق وليس الحق بالرجال" .. هل كانت شعارات تؤمن بها عن قناعة أم كانت شعارات مرحلية تتغير بتغير الأماكن والأزمنة ؟! .. هل أصبحت تراني نصف إنسان له نصف الحقوق والواجبات طالما أني لست من جماعتك، وأنني فقط مجرد أداة للتغيير، مباح لك أن تستخدمها كي تصل بها إلى المكان الذي تستطيع من خلاله أن تتمكن من تنفيذ مبادئ وفكر الهوية المقدسة لجماعتك على المجتمع كله حتى وإن كان عن طريق الكذب والخداع باسم الدين ؟! .. صمت من كان صديقي للحظات.. ثم فاجأني مرة أخرى بعبارات إعتدت أن أسمعها من كل رجال النظم الدكتاتورية. - إن من هم خارج السلطة لا يعلمون قدر المؤامرات التي تحاك ضد هذه الوطن كي تسقطه .. ومن في السلطة هم فقط الذين يرون مالا يراه أحد حيث تقارير الأجهزة الأمنية والمخابراتيه التي تمتلكها الدولة وتقدم تقاريرها للسلطة التي تسهر ليل نهار في سبل الحفاظ على هذا البلد من السقوط في الهاوية.. وهم وحدهم الذين يعلمون مصلحة هذا الشعب.. ولن أنكر أن هناك بعض الأخطاء حدثت لكن كان العامل الأساسي فيها هو ما تفعله المعارضة التي لا تريد استقراراً لهذا البلد وتريد إسقاطه. هنا تيقنت أننا أمام مصطلح جديد في اللغة العربية وهو "أخونة الضمير" ليخرج من الضمير شيطان بصورة إنسان.. فيصبح كل شيء مباح.. الكذب والسرقة والخيانة والقتل.. يصبح طعم الدم لذيذ كعصير البرتقال.. تهون الأوطان ويزيف التاريخ.. يصبح الأنين الآدمي كمعزوفه رومانسيه من قيثارة فريدة وأصوات المدافع كقرع الطبول.. سقوط المباني على رؤوس أصحابها كمشاهدة فيلم أمريكي مثير.. تُنتزع الذاكرة من جذورها ويصبح كل شئ أبيض والماضي صاف كجدول ماء عذب.. الجلاد برئ و الضحية متهم.. تهاجر الحمامات البيضاء ولا يبقى في السماء إلا غربان تنعق صباحا مساء.. يتحول الإنسان لوحش كاسر ينتظر فريسة للانقضاض عليها وتبدو المدن كغابات موحشه.. تظهر الإنسانية كلمه لا معنى لها و لا رديف.. تصير الأسنان حادة ولحوم البشر سهلة المضغ.. يكون الخاص عام و العام خاص.. الحلال حرام و الحرام حلال.. تغفو العقول وتثور الأحقاد.. تتعطل إنسانية الإنسان وتفقد حواسه قيمتها.. يغدو صاحب عقل لا يفقه وصاحب عين لا تبصر وصاحب إذن لا تسمع وصاحب قلب لا يدرك. حين تتأخون الضمائر.. يُنظر للوطن كمزرعة عائلية والشعب فيه كقطيع من الغنم.