(انزل.. انزلوا.. النزول.. نازلين) من بين كل أفعال اللغة، كان فعل (النزول) هو الشعار الوحيد الذى يتردد كاللازمة الموسيقية بين موقعة والتى تليها فى سلسلة المواقع التى تشهدها مصر منذ عامين. كنت أرى هذا أمرًا مزعجًا: أن تقتصر (الثورة) على فعل جسدى غُشم غُفل رغم كل ما ينطوى عليه من شجاعة لا تُنكر، أن تكون الشجاعة وحدها فضيلة الجموع ونداء النخب الذى لا تعرف سواه. المخاطرة هنا كبيرة: ألّا تحمى الشجاعة فضائل أخرى، مما يعرضها لأن تصبح تهورا، أو محض غضب. ألّا يحمى (النزول) أفعالًا أخرى غائمة وغائبة، من قبيل: (فكّر.. اعرف.. عَرّفْ.. نظّم..) تحضرنى مقولة رددها المفكر المعاصر ذو الشعبية فى أوساط اليسار العالمى، سلافوى جيجك. قال فى معرض البحث عن إجابة لأزمة اليسار والثورة قبل سنوات قليلة: «لا تفعل شيئا.. فَكِّرْ». من الباعث على الإحباط فى المشهد المصرى أننا ننتهج العكس تماما، أننا نفعل كل شىء إلا أن نفكر! تقول الحشود فى الشارع والمعارضة أمام الميكروفونات إننا (نطالب) بإسقاط الدستور، مثلا. هل فكرنا فى الجهة التى نطالبها؟ نطالب مَن؟ هل نتوقع من نظام الإخوان أن يسقط نفسه؟! هل فكرنا فى معضلة أن الدستور والرئيس الإخوانى صوّت عليهما بنعم ملايينُ المصريين؟ ماذا سنفعل بهؤلاء؟ بل ماذا سيفعل هؤلاء -وأنا أقر وأبصم بالعشرة، حتى أقطع الطريق على المزايدة، أنهم أساؤوا الاختيار وأنهم ضحايا الجهل والتجهيل- إذا رمينا أصواتهم فى أقرب صندوق زبالة؟ إن الحشود الآن تواجه فى الشوارع آلة الشرطة والجيش بلا برنامج ولا آلية ولا قيادة ولا ضوابط، وتنزف الضحية بعد الأخرى، وإذا استمرت عجلة الغضب فى الدوران فإنها حتما ستواجه حشودا مثلها فى حرب أهلية. قلنا مرارا إن المرحلة الانتقالية كان يجب أن تطول سنين قبل تطبيع المسار السياسى الذى اختطفه الإسلاميون. وكتبنا مرة عن هدية السماء التى أعادتنا فى لحظة ما إلى المربع صفر بإعلان العسكر الدستورى وحكم «الدستورية». فما كان من الجميع، للأسف، إلا أن ناصروا المرسى وإخوانه وأجهضوا الفرصة، وهم الآن لا يريدون أن يدفعوا الثمن! كيف؟! الحديث عن ثورة ثانية يحتاج إلى تأمل، والتأمل غالبا ما سيفضى إلى الشك فى إمكانية ثورة ثانية الآن. دعونا نتذكر شروط لينين الشهيرة للثورة فى أدبيات اليسار: • انقسام وأزمة فى أعلى هرم السلطة. (وهو أمر غير حادث حتى الآن فى حكم الإسلامويين). • انقسام الطبقة الوسطى بين الثورة والاستقرار. (وهنا كلام كثير بعضه يشكك أصلا فى وجود طبقة وسطى مصرية الآن)! • استعداد الطبقة العاملة الكادحة للنضال وتقديم التضحيات. (وأقل ما يقال عن هذه الطبقة أن نصفها مؤيد لحكم الإسلامويين)! • وجود التنظيم القيادى الجاهز ببرامجه واستراتيجياته وخططه وقادته. (وهو أهم الشروط فى نظر لينين، وأكثرها غيابا عن الواقع المصرى)! أن تخرج مصر من مستنقعها الحالى أمر لن يتأتّى إلا بتبنّى الدولة نظاما إصلاحيا خاليا من الأيديولوجيا، نظام لا يُحارب الإسلام ولا يتبناه سياسيا، نظام لا يتوحش رأسماليا ولا يستعيد تجارب القرن العشرين اليسارية البائسة، نظام لا يشغل نفسه بالهوية ولا عبد الناصر ولا يقرأ لنا التاريخ لأن عيونه على المستقبل، نظام قضاياه هى التعليم والمعرفة والعلم والمرور والبنية التحتية والعلاج والسكن والأجر المستحق. الوصول إلى هذا النظام من النقطة التى نحن فيها ليس له سوى طريقين، فاختاروا: طريق حرب أهلية، قد تسفر مع ذلك عن التغيير المطلوب بثمن باهظ أو استمرار الإخوان أو العودة إلى حكم عسكرى كبديل عن العنف الأهلى. والطريق الثانى هو الصندوق الانتخابى، رغم أنه أمر مزعج للكثيرين لأنه للأسف يعنى (العمل طويل النَّفَس) وليس مجرد (النزول)! لن يعجب كلامى الكثيرين. ولكن، عفوا. لا يمكننى التفكير برأس آخر، ولا يمكننى نسيان ما قرأت ولا إنكار ما أرى. لا يمكننى تسليم مصيرى لا للحى القرون الوسطى والساقطين من غرابيل التاريخ، ولا لكائنات الأولتراس والبلاك بلوك المشوَّهة. انظروا -بشىء من التجرد لو سمحتم- إلى فيديوهات ما عُرف بميليشيات جامعة عين شمس الإخوانية، وإلى ما طلع لنا فى المقدَّر جديد أى البلاك بلوك: هل تجدون فرقًا كبيرًا يعنى؟! هذا الشباب قد يكون شجاعا، لكنه غاضب فحسب. نبالتهم لا تستند إلى أفكار، بدليل التركيز على الأشكال والصور والأقنعة، التى هى صور فى المرآة لِلّحى والمساويك والجلابيب القصيرة. قبل أشهر كتب الصديق الشاعر مهاب نصر عن (ثورة بلا ثوار). قلت له حينها، وأكررها اليوم: يا ليت! بل هم ثوار بلا ثورة!