فى فيلم توم هوبر (خطاب الملك -2010)، يعانى جورج السادس ملك إنجلترا من التأتأة. عيب من عيوب النطق والكلام. لكنه لحسن حظه -أو لسوئه كما قد نرى لاحقا- لن يمنعه من الجلوس على عرش الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، إذ إنه كان لديه من الدم الأزرق والحق الوراثى أكثر مما كان لديه من التأتآااات! مع ذلك فقد دخل الملك المسكين منذ أن كان أميرا ثم وليا للعهد فى معركة طويلة مضنية مع نفسه تحت ضغط زوجته ومحيطيه ورجال قصر باكنجهام وحكومة داوننج ستريت، حتى يتمكن من التغلب على عِيِّه فى الكلام. ذروة الدراما ستكون فى اليوم الذى يلقى فيه جورج الخامس خطابه كملك يأخذ أمته إلى حرب كبرى. طبعا حصد الفيلم جوائز الأوسكار الكبرى: أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن ممثل وأحسن سيناريو، من بين رقم مهول من الترشيحات بلغ 12 ترشيحا للأوسكار. لم يمنع كل هذا الفيلسوف السلوفينى الشهير سلافوى جيجك -وهو معروف باهتمامه الواسع بالسينما، وبقلة أدبه- لم يمنعه التقدير النقدى التجارى من الكشف عن رسالة مدمرة فى بنية الحكاية، مستغلا تطبيقاته الفريدة للتحليل النفسى على الطريقة اللاكانية. فمشكلة الملك التى تنعكس ظاهريا فى تأتأته هى رفضه الداخلى ل(ملوكيته) التى هى رمزية ديكورية فى أفضل الأحوال. رفضه للدور الذى يراد له أن يلعبه بغض النظر عن رغبته فيه أو عنه، وبغض النظر أيضا عن أهمية الدور نفسه. أن يتخلى الملك عن تأتأته هو أن يتخلى بشكل من الأشكال عن إنسانيته المتفردة، لصالح دور بلياتشو رفيع فى مقام ملك، لكنه بلياتشو. من هنا أفهم وأقدر ما فعله تأتاء مصر، الرجل المحترم، محمد البرادعى. فقد رفض البرادعى بنص تعبيره أن يشارك فى المسرحية الهزلية ليعطى شرعية إضافية لما هو اغتيال لثورة نقية، بأيدى أطراف اللعبة جميعها دون استثناء. مثّلت عودة البرادعى إلى مصر قبل نحو عامين أو يزيد قليلا، أكبر تحدٍّ لنظام مبارك، كما مثّلت دفعة ودعما لا يمكن إنكارهما للحركات العلمانية المعارضة، خصوصا حركات الشباب. تعرض محمد البرادعى لحملات هى الأشرس فى سنوات حكم مبارك، وفى عام الثورة أيضا. فمن دعاوى تجهيله بمصر وأحوالها، إلى دعاوى تعاليه وتأفُّفه عن الشارع، إلى تخوينه، وصولا إلى تأتأته، والتساؤل عما إن كان يصح أن يكون لمصر رئيس تأتاء! بالأصالة عن نفسى أقول: ليت رئيس مصر يكون تأتاء! أى أن يكون إنسانا وإنسانيا، يعرف قبل غيره أنه ليس صنما إغريقيا كامل الأوصاف، يدرك مع كل جملة يقولها أنه ليس منزَّها ولا محتكرا للحقيقة ولا قريبا من الكمال. كان يمكن للبرادعى أن يتخلص من تأتأته فى صفقة مع اللاعبين الرئيسيين فى المشهد الحالى، سواء كانوا جنرالات المجلس العسكرى، أو مرشدى مكتب الإرشاد. كان بإمكانه أن يكون «جملة واضحة» ولكن على لسان كومبارس متكلم، لكنه رفض. رسالة البرادعى إلى أهل مصر هى أفضل دعم لثورة شبابها فى اللحظة التى يتخلى فيها الجميع عن الثورة، حتى هؤلاء الذين لو تمتعوا بشىء من بُعد النظر وإعلاء المصلحة العامة على المصالح الشخصية، لحالفوا الشباب وثورتهم، بدلا من معاداتهم وخنقها. لست أرى أغرب من العداوة المتبادلة بين المؤسسة العسكرية والثورة وشبابها. فكل تفكير استراتيجى وتحليلى وعقلانى، بل حتى كل تفكير أخلاقى، يُفضى إلى ضرورة تحالف هذين الطرفين. وإذا كانت العداوة متبادلة، فإنها مفهومة ومغتفرة من جانب الشباب بحماسه ونقائه، وغير مفهومة ولا مغتفرة من جانب الجنرالات. هم يحتاجون إلى وجه مدنى له شرعية، ينافح -وينافحون من خلاله- عن مدنية مصر. فى الوقت ذاته كان الشباب يتوقعون ويحتاجون إلى من يحتضن ثورتهم وطموحاتهم، ويعترف بجدارة انتفاضهم على الظلم فى توجيه دفة المستقبل. لو فكر الجنرالات فى مستقبل مؤسستهم، لا فى مستقبل أنفسهم وخروجهم الآمن، وامتيازات أصحاب الأكتاف المرصَّعة التى لن يقبل شباب متحمس ونقى ومنتصر ببقائها واستمرارها، لما كانت خياراتهم وتحالفاتهم على الوجه الذى نراه. وماذا سيفعلون حين تدوّى فى البرلمان والشارع المؤسلَم سلاسل هتافات من قبيل (حىّ على الجهاد)؟ قرار البرادعى بأن يبقى فى صفوف الجماهير -وجمهوره الأساسى هو الشباب- يعطى لهؤلاء الأمل فى أن يكون فى الرواية فصل آخر، رغم المحاولات المحمومة من كل اتجاه لكتابة كلمة النهاية. هذه تحية لرجل يتأتئ بلسانه، لكن قلبه أفصح من الجميع، وفكره على طلاقة وبيان تحتاج إليهما مصر ليبقى الأمل حيًّا.