كان زميلى فى الجامعة، وكان ينتهز كل فرصة ممكنة لكى ينطلق فى الغناء، وبغض النظر عن رغبتنا فى الاستماع إليه، أو عدم رغبتنا، فهو سيغنى فى كل الأحوال، وسنستمع إليه شئنا هذا أم أبينا! إذ يتحيّن فرصة وجود فترة زمنية قصيرة بين خروج الدكتور من المحاضرة ودخول المحاضر التالى إلى المدرج، وفى هذه الدقائق القليلة، يقفز فهمى بسرعة إلى المنصة، ويمسك «الميكروفون» بيده ويبدأ على الفور فى الغناء. وفى هذه اللحظات القليلة، تسمع فى المدرج ضوضاء شديدة جدًّا، فهناك مئات يتحدثون بصوت عالٍ، والبعض يحاول سؤال الأستاذ وهو خارج من المدرج، وثمة جلبة هائلة يُحدثها مَن يخرجون مهرولين، ومَن يدخلون مندفعين إلى قاعة المحاضرات المزدحمة أصلًا، وأحيانًا تستمع إلى نداءات بصوت صارخ، و«صفافير» مزعجة للغاية، وفى بعض الأحيان تسمع «صرخات مدوية» لا تدرى لها سببًا! لكن كل هذا الضجيج لم يكن ليمنع فهمى أبدًا عن الغناء فى وسط آلاف يصخبون، ولا يوجد بينهم مَن ينصت إليه! وحتى إذا رغب إنسان من بين هذه الحشود المحشورة فى المدرج، أن يستمع إلى غناء هذا المغنى الغريب، فكمية الضوضاء حوله لن تسمح له أبدًا أن ينصت إلى صوت ما وسط كل هذه الأصوات العالية، المتداخلة والمتنافرة! وعندما يدخل المحاضرون إلى المدرج كانوا يندهشون فى البداية من هذا الشاب المنفلت الذى يغنى أشهر الأغانى العاطفية فى قاعة الدرس، ومن ثَم بعضهم كان ينهره بشدة أمام زملائه، وبعضهم كان يسخر منه، أو يضحك عليه، لكن مع تكرار هذا الموقف الهزلى، اختلفت طريقة التعامل معه، واكتفى أغلبهم بعبارات هادئة من نوعية: «انزل يا فهمى، عايزين نشوف شغلنا»، أو «شوف يا ابنى دروسك أحسن لك». أما موقف الطلاب منه فكان متباينًا جدًّا، صحيح الأغلبية كانت تضحك عليه، وتسخر منه بمنتهى القسوة، لكن ثمة مَن كان يتعاطف معه، أو يؤازره بشدة، خصوصًا حين يدخل عم محمد «الفراش»، ويحاول انتزاع «الميكروفون» من يد فهمى الذى يتشبّث به لأطول وقت ممكن! وحينئذ يتدخل الطلاب بينهما، بعضهم يساند عم محمد، حتى لا يتعرض للأذية، بسبب هذا الغناء فى المدرج، وبعضهم يدافع عن فهمى، الذى لا يؤذى أحدًا! لكن منظره وهو يغنى وهم يجذبونه بشدة ليأخذوا منه الميكروفون، مشهد لا ينسى أبدًا. ومع مرور الزمن، أصبح فهمى أشهر طالب فى الكلية كلها، ثم بدأ ينتقل للغناء فى مدرجات الكليات الأخرى، ومن ثَم أصبح أشهر طالب فى الجامعة، وعرضت عليه بعض القوى السياسية أن تُرشحه فى انتخابات الطلبة فى الكلية، كما عُرض عليه أن يكون رئيسًا للجنة النشاط الفنى بالجامعة، لكنه لم يكن يهتم على الإطلاق بهذه الانتخابات، ولا بالأنشطة الجامعية، ولا بالسياسة، ولا بغيرها، فقط كان يريد أن يغنى أمام الناس، حتى لو لم ينصت إليه أحد!