الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    محافظ أسيوط يوجه بسرعة إصلاح كسر خط مياه حى شرق والدفع ب 9سيارات    خطوات شحن كارت الكهرباء بالموبايل خلال إجازة عيد الأضحى    السيسي يُشيد بحُسن تنظيم مناسك الحج والخدمات المُقدمة    مشاهدة مباراة فرنسا والنمسا بث مباشر    العفو عن 4199 من نُزلاء «الإصلاح والتأهيل»    حفلة منتصف الليل| إقبال كثيف للشباب على سينمات وسط البلد.. صور    بعد طرح أحدث أغانيه.. محمد رمضان يوجه رساله لجمهوره| فيديو    صحة كفر الشيخ: تنفيذ خطة التأمين الطبي بنجاح    عادة خاطئة يجب تجنبها عند حفظ لحمة الأضحية.. «احرص على التوقيت»    وفاة حاج رابع من بورسعيد أثناء رمي الجمرات بمكة المكرمة    صائد النازيين كلارسفيلد يثير ضجة بتعليقاته عن حزب التجمع الوطني بقيادة لوبان    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    الرئيس الأمريكى: حل الدوليتين السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم للفلسطينيين    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    مراكز الشباب تحتضن عروضا فنية مبهجة احتفالا بعيد الأضحى في القليوبية    كييف: روسيا تصعد هجماتها العسكرية خلال قمة السلام الأوكرانية في سويسرا    أكلات العيد.. طريقة عمل المكرونة بالريحان والكبدة بالردة (بالخطوات)    «البالونات الملونة» فى احتفالات القليوبية.. وصوانى الفتة على مائدة الفيومية    نغم صالح تتعاون مع الرابر شاهين في أغنية «شلق»    إريكسن أفضل لاعب في مباراة سلوفينيا ضد الدنمارك ب"يورو 2024"    الحج السعودية: وصول ما يقارب 800 ألف حاج وحاجة إلى مشعر منى قبل الفجر    بوفون: إسبانيا منتخب صلب.. وسيصل القمة بعد عامين    موعد مباراة البرتغال والتشيك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة والمعلق    "Inside Out 2" يزيح "Bad Boys 4" من صدارة شباك التذاكر الأمريكي    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    الغندور ينتقد صناع "أولاد رزق" بسبب "القاضية ممكن"    الدراما النسائية تسيطر على موسم الصيف    ريهام سعيد تبكي على الهواء (تعرف على السبب)    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    مرور مكثف على مكاتب الصحة ومراكز عقر الحيوان بالإسماعيلية    وزير الداخلية الباكستاني يؤكد ضمان أمن المواطنين الصينيين في بلاده    التصعيد مستمر بين إسرائيل وحزب الله    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    قصور الثقافة بالإسكندرية تحتفل بعيد الأضحى مع أطفال بشاير الخير    موراي يمثل بريطانيا في أولمبياد باريس.. ورادوكانو ترفض    وفاة ثانى سيدة من كفر الشيخ أثناء أداء مناسك الحج    ما الفرق بين طواف الوداع والإفاضة وهل يجوز الدمج بينهما أو التأخير؟    قرار عاجل في الأهلي يحسم صفقة زين الدين بلعيد.. «التوقيع بعد العيد»    تقارير: اهتمام أهلاوي بمدافع الرجاء    هالة السعيد: 3,6 مليار جنيه لتنفيذ 361 مشروعًا تنمويًا بالغربية    ضبط 70 مخالفة تموينية متنوعة فى حملات على المخابز والأسواق بالدقهلية    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    روسيا: مقتل محتجزي الرهائن في أحد السجون بمقاطعة روستوف    «سقط من مركب صيد».. انتشال جثة مهندس غرق في النيل بكفر الزيات    رئيس دمياط الجديدة: 1500 رجل أعمال طلبوا الحصول على فرص استثمارية متنوعة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    عيد الأضحى 2024.. "شعيب" يتفقد شاطئ مطروح العام ويهنئ رواده    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    قائمة شاشات التليفزيون المحرومة من نتفليكس اعتبارا من 24 يوليو    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد ناصر الكبير    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    محافظ كفرالشيخ يزور الأطفال في مركز الأورام الجديد    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    ارتفاع نسبة الرطوبة في الجو.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية إسكندرية فى غيمة_الحلقة الرابعة
نشر في الصباح يوم 06 - 10 - 2012


ملخص ما نشر
الاسكندرية تجتاحها عواصف السبعينات ، تراجعت قصص الحب ، حسن ذهب لمعسكر بالجامعة ،حصل على عشرة جنيهات كاملة وتدرب على الكاراتيه ، واستمع مذهولا لمحاضرات ضد اليساريين ، وحضر تدريبا للطلاب على ضرب الشيوعيين ، قرر أن يحتفظ بالجنيهات لينفقها على النساء فى البار الليلى مع الأصدقاء ، كانت الاسكندرية تفقد معالم خصوصيتها القديمة ، هاجر الأرمن واليهود والشوام واليونانين ، لتدخل المدينة زمنا جديدا

كانت كل المحلات حوله مغلقة، ويسأل نفسه ما كل هذا الظلام في الطريق الليلة؟
وحيدا دخل إلى شارع صفية زغلول أيضا . لم ير أحدا في الطريق، وكل المحلات أيضا مغلقة . لم ينتبه إلى أفيشات الأفلام على سينما مترو أوريالتو أو حتى الهمبرا وستراند عند نهاية الشارع . في محطة الرمل كان باعة الكتب جميعا قد لموا فرشهم وأغلقوا أكشاكهم الملحقة بالحائط . لا أحد أيضا. الترام الواقفة مضيئة من الداخل، لكن لا أحد يتجه إليها . تبدو منسية من زمان هنا. وحين تحركت به كان وحده . في محطة الأزاريطة ركب رجل في حوالي الأربعين من العمر، والمدهش أنه ترك عربة الترام الخالية كلها وجلس أمامه ، ثم راح يفرك يديه من البرد وينفخ فيهما , رغم أنه يرتدي بالطو أسود ثقيل , وحول عنقه كوفية من الصوف.
- نوّة المكنسة.
قال الرجل ولم يرد هو. كان يفكر هل أرسل سيد بيه عبدالباري هذا الرجل خلفه. ثم قال الرجل:
- لها نصيب كبير من إسمها. تكنس كل شيء على الأرض.
إبتسم هذه المره. لا يظن أن رئيس مباحث أمن الدولة بهذا الغباء ليرسل شخصا لا يري غيره.
بسرعة وصل الترام إلي محطة كامب شيزار، وبسرعة غادر هو الترام، وبسرعة صعد السلم الصغير للمحطة ليجد الشارع خاليا، والمحلات أيضا مغلقة، والريح اشتدت وصارت تطير الأوراق على الأرض، ولا تزال المياه تجرى إلى البالوعات رغم أن المطر صار خفيفا جدا. بسرعة دخل أحد الأزقة. سمع صوت الموج وقابله الهواء وهو يتجه إلي شارع تانيس. المسافة قصيرة لا تزيد عن عشرين مترا, ثم دخل الشارع والهواء يتحرك حوله . صعد سلم البيت وراح يدق جرس الباب أكثر من مرة . تأخّر الرد عليه حتى سمع صوت أحمد باسم الخشن.
- الصبر يا بني آدمين .
إبتسم. فتح أحمد الباب، كالعادة رآه يسد الطريق بقامته الفارعة وصدره العريض. لكن أحمد اندهش من مرآه وقال:
- أدخل بسرعة. أنت غرقان.
دخل ليرى حسن حافظ جالسا في الصالة، ومعه بشر زهران، بينما أغلق أحمد الباب وعاد إليهم يقول:
- شكلك يا نادر هربان من كارثة..
كان نادر مندهشا من عودة حسن بسرعة من المنصورة التي سافر إليها منذ أسبوع. تساءل :
- عدت يا حسن؟ . قلت أنك ستمضي أسبوعين.
وتصافحا. لكن أحمد الذي بدا يستكمل حديثا سابقا اندفع يقول :
- لعلمكم نسوان القرية عندنا جميلة جدا لكن العيب في الكيلوتات.
ضحك بشر وابتسم حسن أبتسامته التي لا تكتمل، وبدا لنادر أنه لن يحكي لهم ما جرى معه لأن أحمد أنطلق يتحدث:
- الكيلوتات كلها إما"عبك" أو"تيل نادية"
وجد نادر نفسه يكاد ينسى ما كان فيه. ويندهش لإنه أتى هنا ليحكي ولم يتوقع أبدا هذا الحديث. وجد نفسه يضحك مع بشر، ولا تزيد إبتسامة حسن, بينما أحمد يواصل الحديث:
- يا أخي اليوم رأيت في محل"برستيج" بشارع سعد زغلول , في الفاترينة أقصد، كليوتات عبارة عن فتلة. وأي فتلة ؟ وبكم الكيلوت ؟ جنيهان مرة واحدة. قلت للبائع لماذا جنيهان. لومليمان ممكن. دا حتي البضاعة يمكن أن تقع منه.
لم يستطيعوا التوقف عن الضحك، وأرتفع صوت حسن وهو يضحك هذه المرة , لكن بشر قال:
- اسكت يا أحمد لو سمحت . نريد أن نعرف لماذا جاء نادر في هذا الجو.
وكان نادرقد قرر أن يقطع الطريق على كلام أحمد فقال:
- أنا قادم من أمن الدولة.
حط عليهم الصمت والدهشة. تبادل بشر وحسن النظرات في انزعاج , لكن أحمد قال:
- سأدخل أنا إلى سعدية. خليكم في أمن الدولة. لن ترتاحوا إلا إذا قبض عليكم جميعا.
وتحرك ناحية حجرته .
نادر يعرف أسماء النساء اللاتي يأتي بهن أحمد إلى الشقة، ويعرف أيضا أسماء الطالبات اللاتي يأتي بهن ، ويحرص هو وبشر وحسن أن لا يكونوا موجودين وقت حضورالطالبات حتى لا يسببوا لهن أي حرج . وجد نفسه يسأل في ارتياب :
- من سعدية هذه؟
قال بشر:
- لا تقلق , بائعة السوداني على محطة الشاطبي. فوجئنا به يدخل وهي معه وفي يده علبة رابسو قال إنها ستستحم بها.
لم يستطع نادر أن يضحك , وظل الذهول على وجهه. عاد إليهم أحمد قبل أن يدخل الغرفة ليقول:
- وطي صوتك. تسمعك تزعل وتمشى.
ثم قال لنادر:
- وحياتك استحمت بالرابسو وصارت بيضا قشطة. ماذا أفعل ؟ زهقت من النسوان الحلوة.
وتركهم بسرعة ضاحكا هذه المرة ودخل غرفته. قال بشرلنادر :
- حسن لم يكن بالمنصورة. ذهب عن طريق مكتب رعاية الطلبة إلى معسكر في العامرية. طبعا كان معه طلاب من أكثر من كلية. دربوهم على الكاراتيه، وأعطوهم محاضرات ضد اليساريين، وآخر الأسبوع أعطوا كل طالب عشرة جنيهات.
بدا نادر مذهولا جدا. قال حسن:
- لقد وافقت مدير المكتب لأعرف ماذا يحدث حولنا. طبعا لن أستمر معهم. والعشرة جنيهات سأحتفظ بها حتى نذهب إلى نوال بوت لنصرفها هناك. ليس معقولا أن تعزمنا نوال فى كل مرة . الأيام القادمة صعبة. مصر تتغير ولابد أن ننتبه. كانت المحاضرات كلها في المعسكر عن الرأسمالية والحرية التي تنتظر مصر في كل شيء، وضد الشيوعية باعتبارها فكرا شموليا .
ثم ابتسم الابتسامة التي لا تكتمل وقال:
- ولاد قحبة.
حط عليهم الصمت لحظات فقال بشر لنادر:
- والأن إحك لنا ماذا دار معك.
كان نادر يفكر هل هي صدفة أن يتم إستدعائه إلى أمن الدولة في الوقت الذي يتم فيه تدريب طلاب على ضرب الشيوعيين ؟
-----------
كان دفئ كبير قد شمل غرفة يارا الآن والوقت يقترب من الفجر. سكت المطر ولم يعد إلا صوت النخيل الملكي يحركه الهواء في الخارج، وصوت الموج صار أكثر هدوءا. كل شيء نائم في الكون حول يارا وكاريمان اللتين لا زالتا يقظتين. كاريمان جالسة مربعة فوق السرير ترتكن بظهرها إلى الحائط ، ويارا ممددة تستند بظهرها إلى ظهر السرير. قالت يارا وقد تألقت عيناها:
- هذه موسيقى دكتور زيفاجو. أعرفها أيضا. سأقرأ الرواية قريبا. نادر كان يقرأها وحدثني عنها كثيرا.
ثم ضحكت وقالت :
- المشكلة أني لم أتعود قراءة الروايات , وهو يقول أنها ضخمة جدا.
هزت كاريمان كتفها ضاحكة وقالت:
- لا تقرأيها.
- أخاف يزعل.
- إذا اقرأيها.
ضحكت يارا ضحكة قصيرة مبهجة أرتفع فيها صوتها ثم قالت:
- كان نفسي أشوف الفيلم مع نادر. الفيلم كان ممنوع في مصر بعد النكسة. الحكومة كانت محتجة على عمر الشريف. قالوا أنه بعد النكسة عام 1967 قال كلاما في هوليود في صالح إسرائيل .عنما جاء السادات الي الحكم عرضوا الفيلم . لم أره . كنت في السنة الإعدادية .من شهر كان في سينما فؤاد. قلت لنادر أخاف أدخل سينما درجة ثانية. أخاف من الجمهور . ليتني ذهبت معه..
وبدت يارا متألمة بطريقة أدهشت كاريمان , التي أقتربت منها وقبلتها ثم قالت:
- انت رقيقة جدا يا يارا. كيف تعيشين بيننا؟ له الحق نادر أن يكتب فيك الشعر.
تألقت عينا يارا وقالت:
- تسمعي شعره الجديد؟
قالت كاريمان:
- شعر وموسيقى ويارا. ليس هناك أجمل من ذلك.
مدت يارا يدها تحت الوسادة فأخرجت كراسة. ضحكت كاريمان. قالت يارا بفخر:
- أضعها تحت رأسي دائما..
وفتحت الكراسة وكاريمان تضحك . أغمضت عينيها لحظات , ثم بدأت تقرأ..
"تهفو روحي إلي أنامل حبيبتي
أسبح بشفتي فوقها
ينبض قلبي بصوت قبلاتي"
إتسعت عينا كاريمان، وكادت تعبر عن إعجابها ودهشتها، لكنها آثرت الصمت لتستمر يارا.
"أنامل حبيبتي شمع أثيري
ضوء كالماء
ونور كالهواء
كنورالعذراء
حين تتجلى بالليل
لراهب وحيد
في دير بعيد
في صحراء"
وأغمضت يارا عينيها من جديد. قالت كاريمان:
- الله على الجمال..
قالت يارا:
- اسمعي للنهاية .
وعادت تقرأ:
"هنا الإسكندرية
على شاطئها بكى العشاق
حملت أمواج البحر كل قصص الحب الضائعة
وعادت بها أحزانا.
في سحب خريفية"
"هنا الإسكندرية
قصص الحب قد يحملها الموج
لكن لا يطويها النسيان"
"هنا الإسكندرية
لن أودعها
لن تضيع قصة حبي
ستحملها كل الجدران
في قلبي تصميم
وفي روحي شجاعة
حتى لو تخلت الآلهة عني
سآخذ حبيبتي معي
وأذهب مع السمّان
حين ينتهي الشتاء
إلى بلاد لا أعرفها
لكنى على يقين
إنها ستستقبلنى
بالنساء يغنين
فوق أسطح المنازل
وبالرجال يعزفن
على الجيتار في الطرقات
وستظل قصة حبي خلفي
أغنية فوق الاسكندرية
حتى أعود إليها من جديد
وقد صارت قصتي أشجارا
تملأ فضائها "
-2-
لم يكن الصباح دافئا لتجلس روايح وغادة في البلكونة الكبيرة كما تفعلان دائما في الصباحات المشمسة. تعودان متعبتين قبل الفجر من ملهى
اللؤلؤة الزرقاء. تستيقظان عادة في الحادية عشر. تستحمان وتجلسان في البلكونة تشربان في فخر, النسكافيه التي لم تكن معروفة في البلاد من قبل ممزوجة بالحليب , ثم تمشط كلاهما شعرها.
جلستا اليوم في الصالة . روايح وغادة تسكنان شقة الدور الثاني منذ أربع سنوات . بالكاد في الثلاثين من العمر , وإن بدتا أكبر من ذلك. أحيانا تنضم إليهما أخريات , لكن سرعان ما تختفين . الدور الأول للبيت شقة مهجورة , لا يعرف أحد لماذا يغلقها صاحب البيت. البيت محاط بسور تفصله عنه مسافة صغيرة خالية من الورود والأشجار التي يبدو أن صاحب البيت القديم بناه على هذا النحو كي يزرعها. بقيت الأرض متربة . والرجل الخمسيني العمر الذي يأتي كل شهر لتحصيل الإيجار، قال عنه أبو الحسن المكوجي، وسمسار الشقق أيضا، أنه اشتراه من صاحبه اليوناني الذي غادر مصر عام 1962. بيوت الشارع كان أصحابها يونانيين أو شوام أو يهود ، أو مصريين موسرين . سكان البيوت كانوا كذلك، والبيوت في معظمها بنيت قبل ثورة 1952، أقلها بنى في الخمسينات. التزم أصحابها بقوانين البناء , فلا يرتفع البيت عن عرض الشارع مره ونصف ، لذلك كلها تقريبا لا ترتفع عن ثلاثة أدوار, أو أربعة إذا كان البيت يقع على ناصيتين ، على شارع تانيس وأحد الأزقة المؤدية إلى الكورنيش أو شارع بور سعيد .
حين أقيمت جامعة الإسكندرية مع بداية الأربعينات ، بدأت بكليات قليلة. كان طلابها سكندريون، لديهم عائلاتهم وبيوتهم . إزدادت الكليات في الخمسينات، وبدأ توافد الطلاب من الريف عليها. كانت المدينة الجامعية لإسكان الطلبة المغتربين، التي تم بناؤها في منطقة سموحة بين المزارع والأشجار, كافية لاستيعابهم . لكن لم يكن ممكنا أن يستمر ذلك ، خاصة بعد أن أعلن جمال عبدالناصر مجانية التعليم عام 1961. إزدادت أعداد الطلاب المغتربين ، وبدأ بعض أصحاب البيوت القدامي من المصريين , أو الجدد الذين يشترون بيوت الشارع من أصحابها الأجانب الذين يرحلون عن الاسكندرية بسبب سياسة التأميم للمصانع والبنوك الأجنبية ، يستثمرون بعض الشقق في إسكان الطلاب الغرباء. هكذا عرف الطلاب الطريق إلى شارع تانيس، وكذلك شارع طيبة على الناحية الأخرى من شارع بورسعيد ، أكثر من غيرهما من شوارع الإسكندرية ، لقربهما من أكثر الكليات ازدحاما، الآداب والحقوق والتجارة والتربية ، التي تتجاور كلها في منطقة واحدة . كذلك عرف الطريق إلى الشارعين، طلاب الكليات الأبعد ، مثل الهندسة والزراعة والطب والصيدلة. في هذين الشارعين حرية يفتقدها الطلاب ساكني المدينة الجامعية في سموحة، التي بدورها لم تعد تكفي الغرباء.
كان من الطبيعي أن تعرف نساء الملاهي الليلية على الكورنيش، الموازي تماما لشارع تانيس، الطريق إلى كثير من الشقق أيضا لتسكنها، ومن ثم الطريق إلى شقق الطلاب .هكذا بدأ السكان الأصليون من أهل الإسكندرية هجرة الشارعين ، والفرار منهما، كذلك السكان الجدد الذين سكنوا الشقق التي خلت برحيل الأجانب من قبل. لم يكن ذالك صعبا، فالشقق كثيرة ومتوفرة في كامب شيزار وسبورتنج وكليوباترا، وأصحابها يطلقون فيها البخور متمنين أن يسكنها أحد . صارشارعا طيبة وتانيس دون غيرهما مدرسة لتعليم الحب والجنس. فاقت شهرة شارع تانيس شارع طيبة، ومشى في المدينة المثل القائل "عايز تهيص روح شارع تانيس" شيئا فشيئا هجرت كل العائلات الشقق، وصارت الشقق كلها تقريبا للطلاب ونساء الليل.
أختفى معظم البوابين، ولم يتبق منهم إلا القليل، الذين بدورهم صاروا يسهلون القوادة . تماما كما يفعل بعض المكوجية، الذين يضعون دائما ستارة خلف ترابيزة المكواة وخلفهم وهم يعملون ، فإذا سأله الزبون رفع الستارة ليجد خلفها امرأتين أو ثلاث يختار بينهن.
روائح وغادة تسكنان تحت الشقة التي يسكنها حسن حافظ وأحمد باسم، اللذان يشترك معهما في السكن بشر زهران ونادرسعيد .
كانت روائح تقلّب في مجلة"البلاي بوي" التي أعطاها لها أحد رواد الملهي من العاملين على السفن التجارية، وكانت لا تكف عن فتح عينيها على آخرهما دهشة ، وتهز رأسها، فقالت غادة:
- هل ستظلين كثيرا تقلبين هذه المجلة؟
- لا أصدق أن هناك مجلات على هذا النحو. كل حاجة باينة. ما رأيك لو أقطع صفحاتها وأعلقها على الحائط .
صرخت غادة:
- مجنونة!. هذه مجلة ممنوعة. تودينا في داهية.
ثم ضحكت وقالت :
- إعطها للجماعة فوق يلصقون صورهاعلي الجدران . هم على الأقل رجال ولن يؤذيهم أحد مثلنا. كذلك يسخنوا أكثر.
ضحكتا وقالت روائح:
- انتهي من شرب النسكافيه وأصعد إليهم بالمجلة، وبالمرة أهزأ سي أحمد بسبب المرأة التي كانت معه منذ أيام.
قالت غادة مندهشة:
- إمرأه غيرنا!؟
- شفتها وهي تصعد معه بعد المغرب في عز الشتا . استغل الظلام ولونها الأسود وتصور أن لن يراهما أحد .
ضحكتا أكثر. شردت غادة قليلا ثم قالت:
- لا أعرف لماذا لا يتجاوب معنا نادرولا حسن أبدا. يجلسان معنا ويأكلان معنا ويتكلمان معنا، ولكن لا ينامان معنا أبدا.
- خائب.
قالت روائح ذالك لكن غادة قالت:
- يبدو أنهما يحبان.
نظرت إليها روائح في استغراب.
- يحب ! ماذا يعني الحب؟
ثم طوت المجلة ونهضت لتصعد بها إلى الدور التالي. لكن غادة قالت:
- إرتاحي ولا تصعدي الآن. لا أحد هناك. رأيتهم جميعا وأنا أقف في البلكونة يخرجون إلى الكلية.
شردت روائح وبدا عليها الضيق ثم قالت:
- وأنا التي كنت أريد أن يكتب لي نادر خطابا اليوم.
نظرت إليها غادة في دهشة ومطت شفتيها ولم تعلق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.