عودة الراعي، البابا تواضروس يحمل إلى القاهرة رسائل سلام من قلب أوروبا    باسل رحمي: إصدار 1492 رخصة مؤقتة لمشروعات جديدة    أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم الجمعة    باكستان: مقتل 5 مدنيين وإصابة 29 بقصف عبر الحدود مع الهند    جنوب أفريقيا يواجه زامبيا في مباراة مصيرية بكأس الأمم الأفريقية للشباب تحت 20 عاما    الرمادي يجري تغييرات.. تشكيل الزمالك لمواجهة سيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    النيابة تستكمل معاينة حريق المبنى الإداري بوسط القاهرة    حسين الجسمي يحقق 12 مليون في أسبوع ب فستانك الأبيض    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    لقاء خارج عن المألوف بين ترامب ووزير إسرائيلي يتجاوز نتنياهو    إصابة 5 أشخاص بحالات اختناق بينهم 3 اطفال في حريق منزل بالقليوبية    بيل جيتس يخطط للتبرع بكل ثروته البالغة نحو 200 مليار دولار    مروان موسى عن ألبومه: مستوحى من حزني بعد فقدان والدتي والحرب في غزة    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    طريقة عمل العجة المقلية، أكلة شعبية لذيذة وسريعة التحضير    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    وزيرة البيئة: تكلفة تأخير العمل على مواجهة التغير المناخى أعلى بكثير من تكلفة التكيف معه    ستحدث أزمة لتعدد النجوم.. دويدار يفاجئ لاعبي الأهلي بهذا التصريح    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    «أوقاف شمال سيناء»: عقد مجالس الفقه والإفتاء في عدد من المساجد الكبرى غدًا    تكريم حنان مطاوع في «دورة الأساتذة» بمهرجان المسرح العالمي    الخارجية الأمريكية: لا علاقة لصفقة المعادن بمفاوضات التسوية الأوكرانية    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    حبس المتهمين بسرقة كابلات كهربائية بالطريق العام بمنشأة ناصر    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    الضباب يحاوط الأسواق.. تأثير النزاع بين الهند وباكستان على الاقتصاد العالمي    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    تبدأ 18 مايو.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصف الرابع الابتدائي بالدقهلية    حملات تفتيش مكثفة لضبط جودة اللحوم والأغذية بكفر البطيخ    تسلا تضيف موديل «Y» بنظام دفع خلفي بسعر يبدأ من 46.630 دولارًا    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    جامعة المنصورة تمنح النائب العام الدكتوراه الفخرية لإسهاماته في دعم العدالة.. صور    كيفية استخراج كعب العمل أونلاين والأوراق المطلوبة    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    خبر في الجول - أحمد سمير ينهي ارتباطه مع الأولمبي.. وموقفه من مباراة الزمالك وسيراميكا    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    بوتين وزيلينسكى يتطلعان لاستمرار التعاون البناء مع بابا الفاتيكان الجديد    زيلينسكي: هدنة ال30 يومًا ستكون مؤشرًا حقيقيًا على التحرك نحو السلام    موعد نهائى الدورى الأوروبى بين مانشستر يونايتد وتوتنهام    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    مصطفى خليل: الشراكة المصرية الروسية تتجاوز الاقتصاد وتعزز المواقف السياسية المشتركة    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شوارع التنهدات والكفار والصراط والدموع
نشر في أخبار اليوم يوم 20 - 01 - 2012

تحمل أوراق الكاتب الكبير أنيس منصور الكثير والمثير من ذكرياته الحية مع مشاهير الثقافة والفكر والصحافة والفن والحياة.. لكنه هذه المرة يبدي إعجابه بعبقرية المكان في مصر من خلال مجموعة من شوارع القاهرة التي لعبت دورا كبيرا في رؤيته ومؤلفاته وفلسفته
أما أجمل شوارع القاهرة علي أيامنا فهو شارع التنهدات أو شارع التأوهات.. وليس هذا اسمه. وإنما اسمه شارع الجبلاية.. أي الجبل الصغير. وهذا الجبل الصغير موجود في حديقة الأسماك.
وهذا الشارع علي النيل يبدأ بفيلا أم كلثوم.. ثم بالعمارة التي يسكنها الروائي الكبير احسان عبدالقدوس وبيت فاتن حمامة وإلي جوارها يسكن الصحفي الكبير علي أمين.
ويوجد أحد الأندية الرياضية. لم أعرف اسمه هو الآن النادي الأهلي وإلي جواره ملعب سباق الخيول ويمضي الشارع إلي نهايته حيث يوجد تمثال رئيس الوزراء أحمد ماهر.. وكان هذا الشارع شاعريا.. أشجار لها ظلال حانية وكانت في الليل ستائر من الضوء الخافت والسكون الجميل وأحيانا كنا نسمع موج النيل. ولم تكن له أمواج وإنما زوارق صغيرة تنساب كأنها أسماك لا خوف لها من أحد.
وأما المصابيح فهي تتواري، أو أنها تغمض عينيها حتي لا يري العشاق بعضهم البعض.. أما العشاق فكثيرون جدا جالسون وسائرون ومتعانقون. وكلنا ستر للآخرين وكلامنا همس ولمس تماما كأغصان الأشجار وموجات النيل وأصوات خافتة لا نعرف من أين تجيء.. فكل واحد أو اثنين لا صوت لهما.. وإنما كأننا حالمون فلا نحن نيام ولا نريد، ولا نحن أيقاظ ولا نريد.. وكلنا ستارة للآخرين.. وقليلا ما نبتسم بعضنا لبعض، فنحن سعيدون وقد تلاقينا كثيرا علي البعد.. ولم يحدث أن امتدت أيدينا ولا أعيننا ولا آذاننا.. وإنما كل واحد في حاله، وحاله أن يظل بعيدا.
أما اليوم والعياذ بالله فقد صحونا في فزع.. أم كلثوم ماتت.. وفاتن حمامة انتقلت إلي فيلا في المقطم واحسان عبدالقدوس توفي.. وخرجت من تحت الأرض مطاعم مزعجة وسدت علينا النيل، والمصيبة الكبري ان اختفت الخيول وظهر النادي الأهلي، ضوضاء ومطاعم لها أضواء قبيحة.. ضاع الشارع والناس، حتي دار الأوبرا هي الأخري أصابها النادي الأهلي بالضوضاء حولها.. ضوضاء السيارات والمصابيح.
الشارع الآن اسمه التأوهات والآهات علي الذي كان ولم يعد إلا ذكري أليمة.
شارع الكفار
اسمه شارع مصنع الطرابيشي في منطقة العباسية. ليس للشارع معالم. وإذا كانت فأنا لا أذكرها. ويبدأ الشارع بمدرسة الطائفة الإسرائيلية. وينتهي الشارع بالدير الدومنيكي، أي الرهبان الفرانسيسكان الكاثوليك.. ولابد أن للشارع صفات أخري. ولكن أكذب لو قلت انني أعرفها أو عرفتها في ذلك الوقت وذلك الوقت هو أيام الدراسة الجامعية.. أقول لك كيف كانت حياتنا.. ففي مدرسة الطائفة الإسرائيلية كنت أدرس اللغة العبرية. وكانت دراسة غريبة وممتعة وشاقة جدا. فهناك كتاب فلسفي مشهور اسمه »دلالة الحائرين« للفيلسوف اليهودي الكبير موسي بن ميمون الذي جاء من المغرب وتوفي بمصر. هذا الكتاب كتبه الفيلسوف باللغة العربية ولكن بحروف عبرية ولغة قديمة.. وبعض العبارات تحتاج إلي شرح. وكان أستاذنا هو ليفي هراري.. يهودي مصري.
وهذا الفيلسوف يسمونه الرباني موسي بن ميمون (5311 4021) ولد في قرطبة في الأندلس، ثم هاجر إلي المغرب، وفي الثلاثين من عمره هاجر إلي مصر ورأس الجالية اليهودية وصار طبيبا خاصا لصلاح الدين.. فلم تكن دراسة اللغة العربية فقط دراسة للغة، وإنما للفلسفة اليهودية. وكانوا يسمون ابن ميمون موسي الثاني، أما موسي الأول فهو نبي الله موسي عليه السلام.
أما الدير الدومنيكي فكان لدراسة الفلسفة المسيحية. وكان في الدير رهبان أصدقاء. فكان الصديق الأب قنواتي وعلي يديه كما يقول العرب تعلمت الديانة المسيحية والفلسفة المسيحية في العصور الوسطي، وكان الدير هادئا هامسا، كل واحد التفت إلي نفسه وإلي كتبه وبيننا نلمح الرهبان يمرون في هدوء ويسألون ان كان أحد يريد مساعدة. وكنا نريد. ونطلب ويستجاب لنا. وكان الأب قنواتي، وهو راهب مصري رئيس جمعية »إخوان الصفا وخلان الوفاء« معنيا بنشر الفلسفة الإسلامية. ومن أعضاء الجمعية أساتذة لنا:
د. عبدالرحمن بدوي ود. محمود خضيري..
صدقني والله لم أر من هذا الشارع شيئا لا ذهابا ولا ايابا، فقط المدرسة اليهودية والدير المسيحي. وقد قطعت هذا الشارع سنوات!
شارعنا!
أحب المشي وأحب أن أتوقف عند بعض المعالم وأجد في ذلك متعة. الشارع الذي أسكنه الآن يبدأ بفندق شيراتون والسفارة الروسية وبيت الرئيس السادات والسفارة الفرنسية ثم السفارة السعودية وإلي جوارها سفارة إسرائيل. وتمثال نهضة مصر وحديقة الحيوان وما تبقي من شارعنا يسكن فيه الفنان الكبير صلاح طاهر وفي الشقة المواجهة له يسكن ابراهيم زكي خورشيد الذي ترجم دائرة المعارف الإسلامية.. وفي الطابق العلوي يسكنك أعظم علماء الجغرافيا محمد عوض محمد الذي ترجم مسرحيات فاوست ورواية هرمن ودرتيه للشاعر الألماني جيته.
ولكن لم يحدث إلا قليلا أن توقفت عند هذه المعالم وعند هؤلاء العظماء.. وربما كنت أكثر ترددا علي بيت الرئيس السادات. أما صلاح طاهر الفنان العظيم فقد توفي وانطفأ مصباح كبير في حياتي. وكان مثالا للود والحب والمرح. وتوفي ابراهيم خورشيد وكان عازفا للعود وكان مطربا أيضا.
أما أستاذنا محمد عوض محمد فقد كان رجلا صارما وكان الناس يضيقون به لأنهم لا يفهمونه وعندما كان وزيرا للتربية والتعليم تشاجر مع مدير مكتبه. فقد جاءه بسرعة في أول مرة ووقف منحنيا في انتظار أوامره. فالتفت إليه الوزير وقال له: لماذا أنت هنا؟ فقال: في انتظار أوامركم. فقال له الوزير: وهل عندك تعليمات بأنني أحد الآلهة؟ فقال: لم أفهم يا أفندم. فرد الوزير: انك تقف منحنيا صامتا متجهما كأنني إله.. امش اطلع بره يا.....
وجاء وفد رسمي من احدي الدول العربية. وفوجئ بأن رئيس الوفد الذي لا يعرفه يحتضنه ويقبله. فما كان من الوزير إلا أن قال: لقد بدأنا نختلف اختلافا شديدا.. فأنا لا أحب الأحضان ولا القبلات ثم انني لا أعرفك ويبدو أن هذا لن يكون.
ويمكنك أن تتصور كيف يمضي الحوار وكيف يشعر الوفد العربي بالاهانة والبداية السيئة.
وانسحب الوفد. ولم يحاول الوزير استرجاع الوفد!
ونحن عندما كنا طلبة اعتدنا هذه الصرامة والخشونة أيضا. ولكن ليس كل الناس طلبة ولا عندهم استعداد لقبول عيوبه مهما كانت رتبته العلمية!
شارع الأستاذ
الأستاذ هو العقاد. وليس شارعا وإنما شوارع كثيرة وميادين. وعلي اليمين والشمال ثكنات عسكرية عليها أعلام مصرية. والشوارع واسعة ومتداخلة ومتقاطعة.. وليس طريقا واحدا ولا شارعا واحدا. ولكننا نسميها شارع الأستاذ. فنحن لا نري إلا الأستاذ والطريق إليه واحد مهما كانت شوارع كثيرة.. وكان موعدنا مع الأستاذ في صالونه يوم الجمعة.. ويوم الجمعة تعلق الأعلام علي كل المؤسسات الحكومية. وكان عندنا احساس بأن هذه الأعلام إنما ارتفعت وتعلقت ورفرفت تحية للطلبة الذين ينشدون العلم في صالون العقاد.
ولم ير من الشارع الذي يسكنه العقاد سوي بيته. ولا نعرف من بيته إلا السلالم. فقد كان الأستاذ يسكن في الدور الثاني. وهذه هي السلالم التي كتب عنها الأستاذ. قال: صعدتها ثلاثا ثلاثا. ثم صعدتها اثنتين اثنتين. والآن أصعدها واحدة واحدة. كنت أصعدها وبياض شعري يتواري في سواده.. واليوم أصعدها وسواد شعري يتواري في بياضه..
ونحن لم نشعر بعدد السلام. إننا نجد أنفسنا أمام الباب المفتوح وندخل ونجلس في انتظار الأستاذ.. ويجيء الخادم بعصير الليمون ثم القهوة. ويظهر الأستاذ، نراه طويلا جدا يكاد يضرب السقف، ويجلس الأستاذ وهو الذي يبدأ بالكلام. ومن النادر أن يقاطعه أحد، حتي بالاستحسان. أما ملابسه فقد وضع طاقية فوق دماغه وهذه الطاقية من نوع قماش البيجاما، وهي صورة هزلية نراها في المسرحيات الكوميدية، ولكنه كان لباس الأستاذ. ويضع ساقا علي ساق، ولكن معظم الوقت ساقيه متلاصقتان وبيد واحدة يحركها مصاحبة لأفكاره.
وكنا نتطلع إلي الوجه المضيء والرأس الشامخ والصوت الهامس كأنه ضوء تجسد صوتا أو صوت يضيء. انه الأستاذ.
أما كيف مضت الساعات بهذه السرعة فهذا أمر عجيب. وننهض عائدين علي أقدامنا إلي بيوتنا البعيدة ولا نريد أن نفكر في أي شيء غير الذي قاله الأستاذ؛ كيف قال كيف ضحك.. كأننا لا نريد أن نبعد عن الأستاذ فهو في آذاننا وفي عقولنا إلي موعدنا يوم الجمعة القادم!
طريق الآلام
كنت أسكن في حي الزمالك شارع الأمير حسين في قصر نعمت هانم يكن، وكان والدي يعمل مفتشا لزراعتها. وماتت الأميرة وانتقلت إلي السكن في مدينة امبابة انتقلنا من الدار إلي النار!
وبيني وبينك لم أعرف معني الزمالك ولا معني الإقامة فيها. فقد جئت من الريف إلي المدينة.. إلي أجمل أحياء مصر وأشيكها وأهدئها وأعلاها. وأكذب لو قلت انني أدرك شيئا من هذا الجمال، وإذا كنت تريد أن تعرف صورتي عندما كنت طالبا أربع سنوات: صورة بقرة أو جاموسة غطوا عينيها وتركوها تدور في الساقية. فقط أتحرك من الزمالك في الترام إلي الجامعة. لا رأيت الشارع ولا فكرت في أن أري حي الزمالك. فقط من مكتبة الجامعة إلي قاعة المحاضرات إلي البيت. وفي الترام أقلب في الكتب فلا رأيت الشارع ولا الأشجار علي النيل.. لا شيء وإنما أنا أعمي وأطرش وأخرس.
ولما انتقلت إلي امبابة كان طريقي إلي البيت يمر بالحقول.. الشارع تراب.. وأحيانا طين، كان ترابا وسوف يصبح مستنقعا في أي يوم.
وفي الليل لابد أن أخترق الشارع في الحقول المظلمة ونباح الكلاب القريبة وبعيدة ولا أعرف إن كانت قريبة أو بعيدة ولكنها مخيفة.. وفي منتصف هذا الشارع توجد الأفران التي توضع فيها آنية الفول المدمس.. وهذه الأفران تلقي برمادها في الطريق.. تنشره أسود في سواد الليل.
ولكن هذه الأتربة السوداء إذا مشيت فوقها أطلقت شررا.. فهي رماد لم يخمد تماما.. فالليل أسود مخيف، والأرض تطلق صواريخ من النيران مخيفة أيضا، وروائح الماء العطن الملئ بالضفادع.. ولم يصبن بشئ إنما يحرق حذائي.. وأحيانا يقفز الشرر إلي الجورب والبنطلون. ولا يوجد طريق آخر.. ولا يؤنسني من هذه الوحشة إلا كلبي الذي شم رائحتي فراح ينبح، وصرت في الظلام أحسب كم بقي من الشارع كلما أدركت أن نباح كلبي صار أقوي وأوضح.. وهذا العذاب كل يوم!
شارع كأن!
لأسباب ليست واضحة كنا نتردد علي هذا الشارع الصغير. بين البنك الأهلي ومكتبة سميث.. فبعضنا يقول: لكي نري بنات الصين الصغيرات الجميلات الرقيقات. وبعضنا يدعي انه ذهب إلي أبعد من النظرات إلي التعبيرات والهمسات واللمسات ثم إلي الصمت الرهيب.. وبعضنا يقول: كأننا ذهبنا إلي الشرق الأقصي: الصين والفلبين وهونج كونج واليابان.. فنحن لا نعرف بالضبط من أي هذه الشعوب. إننا نراهم، أو علي الأصح، نراهن. وليس لهن صوت.. وإنما الابتسام والانحناء. وبس.
ومن البيوت واحد كثير الألوان.. ألوان ناعمة هادئة. وسور الحديقة ليس مرتفعا كأنه يدعونا إلي أن نتفرج علي أشجارها الصغيرة كأحجامها.. شجرة برتقال وشجرة تفاح وشجرة عنب.
ومن حين إلي حين تظهر قطة.. ويظهر كلب لا يطاردها.. وإنما يداعبها.. والحديقة تغريك بأن تمد بصرك لايديك. بل تمد أنفك أيضا ليغمره العطر والأريج الناعم كأنه يستأذنك لكي يدخل أنفك ودون أن تسمح له بذلك يكون قد ملأ الأنف والعين والأذن ووضع لك وسادات من الحرير تستدرجك لأن تنام.. وفجأة تنهار نائما كأن اجماعا من العينين والأذنين واليدين وملايين الخلايا قد صوتت وأجمعت علي ضرورة أن تنام.. واقفا قاعدا.. وقفنا كثيرا بالقرب من الحديقة ولم نر أحدا من أصحابها. لا أحد دخل ولا أحد خرج كأن هذه الحديقة تدار من بعيد.. وفي سماء الحديقة فراشات كأنها الأطباق الطائرة لكائنات من كواكب أخري جاءت تتأمل السلام بين الإنسان والحيوان والحشرات.. جنة لم يدخلها لا آدم ولا حواء.. أو إنها جنة علي الأرض، فكأن آدم وحواء قد هبطا من جنة إلي جنة.. وكأننا أولادهما أو أحفادهما.. وكأننا متنا وكأن مثوانا الجنة: »لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما« صدق الله العظيم.
شارع الصراط
الصراط الذي ليس مستقيما. فإن كنت تعرف القاهرة، فشارعنا يبدأ من مبني الإذاعة القديم عبورا بشارع الشواربي الذي به جريدة »الأساس«، وهي المحطة الأولي في حياتي الصحفية. ومرورا بشارع سليمان باشا متقاطعا مع شارع 62 يوليو ثم شارع الصحافة، حيث دار أخبار اليوم ودار الأهرام.
وكل حياتي الصحفية تجري وتلهث في هذا الشارع.. وإذا تعبنا وقفنا أمام محل البن البرازيلي. ونقف بالساعات صباحا ومساء. فليس في هذا المحل مقعد واحد. ولكننا نقف كأنها محطة قطار أو مطار. هنا يلتقي الصحفيون في الإذاعة ووكالات الأنباء كل يوم صباحا ومساء. واعتدت علي رائحة البن ومن رائحة البن نتنفس أفكارا وقصصا ومسرحيات وكتبا، وفيها تفوح رائحة البن بلا سكر.. كل يوم أقف فيتوافد الزملاء. وفي دقائق نعرف أخبار الدنيا كما جاءت في وكالات الأنباء. ويجيء ماسح الأحذية الذي يجلس تحت وعيناه وأذناه فوق يسمع ويري.. وعنده هو الآخر الجانب الآخر من المعلومات.. من جاء قبلنا وبعدنا، وماذا قالوا، ولماذا تعالت أصواتهم، ولأي سبب تردد اسمي عاليا أو هامسا.. وكيف انتقلت من جريدة »الأساس« إلي »روز اليوسف« إلي »الأهرام« ومن الأهرام إلي أخبار اليوم رئيسا لتحرير مجلات »الجيل« و»هي« و»آخر ساعة«.. ثم مجلة »أكتوبر« و»وادي النيل« و»مايو« والعودة إلي »الأهرام« بعد 62 عاما.. وإلي الوقوف أمام البن البرازيلي.
الدنيا تغيرت ونحن تغيرنا.. فقدت الدنيا ألوانها وألواننا أيضا.. كبرت الدنيا وكبرنا وأغلقت الدائرة علينا: لا خروج ولا دخول وإنما انتظار الطائرة أو القاطرة التي يركبها عزرائيل نهاية كل حي!
شارع الدموع
صدفة؟ قدر؟ يجوز. مصير صارم أن تتجاوز بيوت يموت فيها صديق إلي بيت يدخل السجن صديق ويهرب إلي خارج مصر صديق.. والذين لم يهربوا تزوجوا وانفصلوا ولذلك فبيتهم تتكاثر فيه الدموع علي الأطفال الصغار ودموع الأم التي انهارت وهرب الزوج وكانت النتيجة: هذه الصورة اللامعة بالدموع السوداء بالتشاؤم وطعمها مر، فلا صديق ولا قريب ولا أحد يساعد أو يخفف عن أحد شيئا. وهذه حال الدنيا.
وآخر هذه البيوت لا تزوج أحد ولا انفصل فيه أحد عن أحد، ولا فيه أطفال. وهو مفتوح لأي أحد. ولكن لأن القلوب حزينة فلا أحد يجيء لأن أحدا لا يستطيع أن يخفف عن أحد هموم اليوم والغد وهذا بيتنا.. أي بيت أمي.
والشارع له اسم الزعيم سعد زغلول. وبيت سعد زغلول الذي هو بيت الأمة مغلق لا يدخله أحد من أبناء الأمة.. فأصحاب البيت غابوا إلي الأبد.. ومن هنا كان ظلام البيت وبرودته.. وأن تختاره البومة مقرا رسميا لها.
وفي يوم سألت أمي: من زارك هذه الأيام؟ قالت: لم يزرن أحد بل ذهبت أنا إليهم جميعا.
جميعا؟!
نعم.. لابد أنهم عاجزون عن المجيء.. والحق معهم يا ابني. فالهموم ثقيلة وتزداد الهموم إذ حملها أهل البيت وحدهم. فهم يضيفون إلي همومهم هما مشتركا هو: العقوق يا ابني.
والعقوق أن أحدا قد تنكر للذين ساعدوه أو الذين أعطوه أو ساندوه يوم حاجته إلي ذلك.. ولم أر ان كلمة (العقوق) هي الكلمة المناسبة. ولكن عندما يكون الإنسان حزينا فهو يقول انه أعطي. ولكن هذا احساسه وهذه هي لحظة الامتنان. والامتنان ثقيل ونادر أيضا ولهذا لا يجيء أحد لأنه غير قادر علي أن يحمل همومه مضافا إليها هم الامتنان مع أنه لم يكن بيننا ما يستحق ذلك!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.