من الوجوه البارزة في الحركة الشعرية اللبنانية يطالعنا الشاعر الدكتور/ جودت فخر الدين الذي ينتمي إلي جيل الثمانينات في الشعر العربي الحديث.. وهو واحد من كوكبة من الشعراء العرب الذين يجمعون بين الممارسة الأكاديمية والإبداع الشعري، ولد في الثاني من شهر يونية عام 1953، حصل علي درجة الدكتوراه في عام 1984 وموضوعها «شكل القصيدة العربية في النقد العربي حتي القرن الثامن الهجري من جامعة القديس يوسف» وهو يعمل أستاذا بالجامعة اللبنانية وأصدر عدداً من الأعمال الشعرية هي: «أقصر عن حبك» 1979، و«أوهام ريفية» 1980، «للرؤية وقت» 1985، «قصائد خائفة» 1990، «أيام ومياه وأصوات»، «كتاب الهجرة» 1991 «منارة للعريق» 1996، «سماوات» 2002، «ليس بعد»2006، كما صدرت له الأعمال الشعرية في عام 2006 وقد أصدرت له الهيئة العامة لقصور الثقافة قصائد مختارة من دواوينه المختلفة تحت عنوان «ما بين عُمر وآخر»، تكشف هذه المختارات عن عالم الشاعر الذي يضج بالتحولات والرؤي، فالرؤية الداخلية لتجاربه الشعرية تأخذنا إلي الطبيعة التي تفارق طبيعة الرومانسيين الذين يذوبون في مظاهرها ويسقطون علي عناصرها مشاعرهم وعواطفهم ويستنطقونها بمدخولاتهم الدفينة وإنما الشاعر هنا يبني قصائده التي تميل إلي الكثافة والتركيز والقصر بطريقة حديثة، إن تجاربه تتمثل في رسم أبعاد مفتوحة والإيماءات الموحية هي المركز الذي يشع بالدلالة هو شاعر يهمس إلي الأشياء في حنو إنساني ويقترب من الواقع بحذر ولا يبعثر همومه الذاتية في ثنايا القصيدة بل يحترم الحدود، الموضوعية للدفقة الشعرية، وثقافته النقدية واضحة في البنية الفنية فهو متأثر بالشعر الأوروبي الحديث ويمكن إلحاقه بهذا النمط من الشعراء الرعويين، إن البساطة العميقة هي جوهر شعريته، هو يكتب القصيدة التفعيلية حيث تبدو الموسيقي مترقرقة في البنية الداخلية للأبيات وهي ليست موسيقي جهيرة بل ملائمة لرؤيته الداخلية العميقة أما صوره الشعرية فهي منتزعة من الواقع الذي يعيشه حيث صديقه البيت وصوت العائلة وحركة الأشجار أما العالم الخارجي فهو يتناهي إلينا مغلفاً بالشجن والألفة وكأن حركة الزمن تنسجم مع حركة الأشياء في بساطة ولكن الشاعر مدرك لحتمية الزمن ومرارته اللتين لا تتحولا إلي ألم أو صراخ في قصيدته «هواء الصنوبر» يتصاعد صوت الحب الذي يتسرب في الطبيعة لكي تتحول الأشجار إلي رمز عاطفي، لغة سردية وإن كانت تحاول أن تتشبث بالغنائية، الحب والطبيعة في تراسل لا سبيل إلي انفكاكه ورغم أن الخطاب يتجه إلي المحبوبة إلا أن الطبيعة متمثلة في الصنوبر وبعض الأشجار الأخري تقتسم مع الحب الاهتمام، فالشاعر كأنه يحتفل بحبه وسط هذه الأشجار حيث تسيل ملامح المحبوبة والطبيعة في انسجام شعري، التوازن العاطفي بين الخارج والداخل يحقق رسوخ الحركة المنتظمة داخل القصيدة وتترقرق الصور فيصبح الهمس لغة التجربة، يقول الشاعر جودت فخر الدين: رأيتك هائمة في هواء الصنوبر، عطرك نحو الوهاد، ووجهك في كل غيم وهذا المساء الخجول يعانقني، فرحتي مثل هذا المساء يعانقني ثم يدخل منكسراً جبة الليل يذهب صيف ويترك تحت النوافذ بعض الشحوب فيعلو الصنوبر يومي بهاماته للنوافذ يعلو الصنوبر- عطرك نحو الوهاد.. أنا عثرة في جموحك- أنت الجموح- أنا الخوف تنتفضين فأهوي، وتندفعين فأهرب، أهرب نحوك مني، وحين تضمينني أتلاشي كوهم، أحبك هائمة في هواء الصنوبر هائمة في هروبي إليك أحبك مثل المساء الذي مثله فرحتي» هذه تجربة لا نكاد نشعر بحسيتها لأنها هائمة في هواء الصنوبر والشاعر أقرب إلي ذاته من قربه من المحبوبة الغامضة وكأنه يمهد للدخول في حواره معها حيث يخاطبها قائلا: أريدك وحدك لا كالنساء ولا كالشجر، أريدك كل النساء وكل الشجر أريدك وحدك من بينهن فكوني كما أشتهي لا تكوني سواتي، دعيني أري فيك ما ابتغي كل حين ولا تذهبي في ظنوني، أحبك هائمة في هروبي إليك، هربت إليك لأني عشقت اصطفاءك بي، وارتماءك في وحشتي وجنونك بي، فاذهبي في جنونك- لا تذهبي في ظنوني أريدك وحدك، أنت النساء وأنت الشجر، وأنت الهوي المنقضي والهوي المنتظر فاحرسي ترهاتي وضعفي، أحبك هائمة في هروبي إليك فكوني كما اشتهي لا تكوني سواتي، أحبك ملء المساء الذي مثله فرحتي» تتشكف ملامح التجربة وملامح الشاعر كذلك في هذه العناصر، الهروب، الوحشة، الاصطفاء وقد تسفر هذه العناصر عن لون من النرجسية ولون من الخوف من انكشاف الذات وتورطها في الإفضاء بسر القلب، وإذا كان الشاعر مسلماً ذاته للصنوبر في البداية ثم الاقتراب من الحبيبة في متنصف القصيدة فهو يصعد إلي مرحلة استخلاص الرمز لتكون الطبيعة مرآة للحبيبين، يقول الشاعر جودت فخر الدين: هواء الصنوبر نفحتنا حين تسنح شرفتنا للوهاد، هواء الصنوبر نفحتنا حين نطلق نحو الأعالي نوافذنا وهنالك منا صنوبرتان تشبان قرب سياج الحديقة تنتهبان قليلاً وتعتنقان كثيراً، صنوبرتان هنالك في دارنا بين سرو وحَوْر وكينا تذيعان سرا الهواء فيسري لينفضح سر الشجيرات تلك التي قد غفت، يتلوي هنا وهنالك ملء الحديقة، ما بين سرو وحور وكينا ولكنه يتجدد بين ثناياهما منهما يتسرب منتشياً فيميل ويزهو ويلمع سرو وحور وكينا وما غير ذلك من كائنات الحديقة، لاتسألي كيف أني رأيتك هائمة في هواء الصنوبر لا تسألي، وانظري كيف أنا جعلنا صنوبرتين هنالك في دارنا تخفقان كقلبين يحتفيان بأسارانا» تظل عناصر الطبيعة حية في كلمات هذا الشاعر بل حية في هواجسه ووساوسه يقول: «أهب الغيوم وساوسي، فتقودني عبر الشعاب إلي ذري الصبوات لا أختار غير وساوس حيث الروايات التي تروي الأباطيل المزاعم، احتمي بوساوسي هي جنتي، لا بل جحيمي، إنها ركني الذي اختاره، ركني الذي يقسمو كما تسمو بروح هائمة، أهب الغيوم وساوسي كي لا يهيم صفاؤها بين الانام وكي تظل خفية مكنونة مثل اللآليء احتمي بوساوسي، فإذا بصدري كالسماء الغائمة» هل يئس الشاعر من الأرض فاتجه إلي السماء، ان السماوات تجذب الشاعر حتي ليضع اسمها عنواناً لديوان كامل، هل نزعة الشاعر إلي السمو تحول السماوات إلي رموز روحية فهناك السماوات القريبة التي لا يصدقها الشاعر إنه يهفو إلي ما بعد هذه السماوات المتاحة، حيث يقول جودت فخر الدين: «تعد السماوات القريبة خلف أوهامي تناديني وتلهث خلف أوهامي فأمضي لا أصدقها، أناجي قبرات القفر تنهض بالمدي الساجي فترتعش الربي، أمضي إلي اصقاع صمتي مفعماً بسريرتي مستوحشاً. كالأنبياء الائين بصمتهم، تلك السماوات الغريبة لا أصدقها ولكن السماوات البعيدة سوف تحملني» تلعب الطبيعة دوراً مركزياً في عالم الشاعر ويبدو أنها طبيعة تقف بديلاً للعالم الخارجي، إن الشاعر يغوص في أعماق الأشجار والمياه باحثاً عن ذات مفقودة، العالم الخارجي شاحب وصوت البشر لا يكاد يسمع، ان صوت الشاعر الذي يتغلغل في الأشياء يؤنسه فهو وحده مع الحديقة وأشجارها حتي الطيور لا نلمحها وكأن هذا الهمس والفضاء المحيط يعطي للذات حريتها واتساعها، يقول الشاعر في انصات عميق لروح الأشياء: «أظل أراقب موت الشجيرات عند الضحي، والظلال التي انكمشت في الحديقة، أنظر من جلستي راثياً لا نطفائي، أظل كذلك حتي يجيء المساء اعتذاراً تقول النسيمات جئنا نودع ذاك النهار فأنهض في جلستي أتأمل روح الوريقات، تطلق وسوسة في فضاء صغير فضاء فتي خبا فيه آخر خيط من الشمس، انهض من جلستي اتقبل عطر التحيات، أرنو طليقاً فذاك انبعاث الشجيرات ملء الحديقة، تلك المقاعد تخفق مأهولة بوفود المساء التي لا تري، اتطاير في جلستي وأحيي الفضاء الصغير الذي يحتويني كأني أحدث هذا المساء ليأمن بعد اعتذار لأنسي به وهنا في النهار» الشاعر جودت فخر الدين يمعن في التغلغل داخل الأشياء وهي أشياء صامتة لا توحي بأي لون من الصراع سوي الصراع الداخلي للشاعر، إن غياب الفعل الإنساني المباشر يجرد التجربة من صعود الإيقاع من ناحية وخفوت الحركة الدرامية من ناحية وكأننا في حالة صوفية أقرب إلي التجريد، لا نسمع سوي صوت الشاعر ولا نري سوي حركته داخل صديقته مع عائلته وكأن الفضاء هو مسرح الرؤية والتحولات كلها داخلية مرتبطة بواقع غامض وهو يواجه نفسه بقدر من الحسم في قصيدة ليس بعد حين يشعر بوطأة الزمن في الخمسين من عمره ولكنه يخشي فقدان كل شيء فيوجه الخطاب إلي ذاته حيث يقول: ليس بعد، تمثل، فما زلت تخمد وهماً لتنعش وهماً، وأيامك الآن قش يفرد في القفر لم تحترق كلها، لم يزل يتحرق فيها هزيع من الشوق هأنت تمضي، ولكن ماءً يناديك ليس كنبع وليس كموج وليس كسيل ولكنه ماؤك المتلهف كالنبع والمتردد كالموج والمتهور كاسيل، مازلت تخمد وهما لتنعش وهما فلا تتسرع ولا تتباطأ وبسر هادئاً. هدأ الآن روعك ؟؟ مثله، ودع القش في القفر بتلو أغانيه الخافتة، إنك الآن تمضي ولكن ماء يناديلك يغير بأغوارك الساكتة» ثم يمسك بنقطة ضعفه فيقول ليس بعد تجاهل قليلاً تغافل فأنت تراقب نفسك راقبتها دائماً فتورعت عن كل شيء. ولم تمترس من ظنونك في كل شيء بماذا نجوت؟ جعلت ظنونك حصنا فكانت حصاراً أتحسب أنك تنجو إذا ما طلبت النجاة؟ بماذا ستنجو؟ تقدم وثق بالمخاطر، فرط قليلاً، لعلك تعرف إذاك طعم النجاة، جودت فخري الدين يقترب من عالم الرسامين في الاهتمام بالطبيعة الصامتة يختبئ الفعل الإنساني في أعماق الرؤية أما التحولات فهي تنبثق من الزمن الذي يحاول الشاعر أن يكفكف جموحه بالتريث أحياناً والإيمان بالمخاطرة أحياناً أخري.