هناك علاقة وطيدة بين العمل الأدبي والبيئتين الاجتماعية والتاريخية اللتين نشأ فيهما المبدع, وذلك لتأثيرهما علي العمل الإبداعي أو الفني تلقياوإنتاجا. الأمر الذي يدفعنا إلي الانتباه إلي خطورة مفهوم الجيل الأدبي واستخداماته في الخطاب النقدي بعامة, والشعري بخاصة, وذلك في ضوء التأثير المفترض للبيئة الاجتماعية والسياسية, الذي يستتبع أنساقا جديدة من الإنتاج الأدبي تظهر في أعمال أدباء كبار كانوا قادرين علي التعبير عن رؤية جيل ما إلي العالم من خلال إبداعهم. شاع تعبير الجيل الشعري في حياتنا الأدبية, واستخدم في كثير من الأحيان استخدامات موظفة, تربطه بالقيمة تارة, أو تجعل منه أداة للنفي والاستبعاد تارة, أو تقصر استخدامه للدلالة علي شلة أو مجموعة أو عصبة تارة, وهذا ما حوله إلي فولكلور نقدي سائد. كان من أشهر التعبيرات دلالة في هذا السياق تعبير جيل الستينيات, وتعبير جيل السبعينيات, ومن بعد ذلك الثمانينيات والتسعينيات, وهكذا, فأصبحنا شهودا علي بزوغ جيل أدبي جديد كل عشر سنوات, غالبا مايظهر مرتبطا بشلل أدبية أكثر من ارتباطه باتجاهات جمالية لها بيانات ثقافية واضحة, أو أقواس جمالية أو نقدية محددة.. خلا تعبير جيل السبعينيات الشعري في استخدامه النقدي الشائع من العلمية, واستخدم في منتدياتنا الثقافية استخداما شائها, متخذا سمت القالب الكليشية, وكأن شعراء هذا الجيل باختلاف مشاربهم وتياراتهم يتمتعون بسمات لها سقف جمالي واحد, أو يحوزون درجات وعي ثقافي متقاربة, وذلك دون الاهتمام بالاختلافات الفردية القائمة بين مبدع وآخر, أو بين اتجاه جمالي في هذا الجيل واتجاه آخر, وأظن أنني لا أعدو الحق لو قلت إن الاختلافات الجمالية التي يمكنها أن تكون بين شاعرين ينتميان إلي جيل السبعينيات, قد يجاوز الاختلاف بين شاعرين من جيلين مختلفين, الأمر الذي يفسر أسباب الاحتراب القائم بين شعراء يظنون أنهم ينتمون إلي الجيل نفسه! وأذهب في هذا السياق إلي أن مفهوم الجيل الشعري في خطابنا النقدي الشفهي بخاصة ليس مفهوما جماليا بالمعني الصحيح للكلمة, فهو مصطلح كثر ما وقع الاختلاف في استخدامه, يتلون تبعا للمصلحة, ويوظفه كل مبدع وفق تجربته, ويلونه اتفاقا مع مكاسبه في المجال الأدبي, استنادا إلي الموقع الذي يحتله فيه, وإن كان هناك من ينتمون عمرا إلي جيل ما ويقعون, استنادا إلي خطابهم الإبداعي, في خارجه, مثل عدد كبير من الشعراء الذين نطلق عليهم الآن شعراء السبعينيات. هناك إذن شرعيات سبعينية مختلفة أهمها تلك التي تستند إلي إبداعها المعاصر, أما ما يطلق عليه جيل السبعينيات في الخارج الأوروبي بخاصة فقد كان حركة تاريخية واسعة, ولم يكن معبرا عن مجموعة ضئيلة, أو عصبة شعرية صغيرة, ولم يوظف المنتمون إليه وجودهم فيه, من أجل استثمار هذا الانتماء للحصول علي فوائد رمزية بعد ذلك بأكثر من عقدين, فلم ترتبط فكرة الجيل في أوروبا بأفراد محددين, أو بجماعة محدودة, أو عصبة ضيقة, بل بطليعة ممتدة الأطراف, أرهصت بمعالم ثقافية واجتماعية وفكرية وسياسية عامة, ووسمت بطابعها الجمالي الجديد والمتمرد مجموعة من الممارسات الاجتماعية المختلفة التي ظهرت في فترة تاريخية بعينها.. فإذا أردنا قليلا من التجريد الذي قد تعوزه الدقة في هذا السياق الموجز, يمكننا القول إن تجربة شعراء جيل السبعينيات في الوطن العربي, قد انقسمت من خلال خلاصة اجتهاداتهم الجمالية, سواء كانوا مستقلين لم ينضموا إلي مجموعات شعرية, أو كانوا فيها, أو كانوا في خارج بلدانهم آنذاك, إلي فريقين الأول اهتم بالمعني المعرفي للشعر, الشاعر النبي أو المعلم, شاعر الرسالة والموضوع والقضية, وكان معظم شعراء هذا الفريق أقرب في اختياراتهم الجمالية إلي النصوص القارة في المدونة الشعرية العربية التقليدية! بل إن منهم عددا كبيرا حافظوا علي تقاليد القصيدة التفعيلية بكل سماتها البنيوية الخمسينية, علي نحو أقام سدا بينهم وبين الولوج إلي مساحات جمالية جديدة, فغلب علي قصائدهم علي مستويي الشكل والموضوع المعاد والمكرور! ذلك دون أن نغض الطرف عن أن هذه التقليدية في مصر بخاصة هي التي جعلت لعدد منهم حظوة لدي الأجيال الشعرية السابقة التي مازالت تتمتع بمراكز مؤثرة في المجال الرمزي والمؤسسي علي السواء, فاحتلوا علي نحو ما جزءا لايستحقونه من سدة المشهد الشعري المصري المعاصر. وقد استمرت معظم قصائد هذا الفريق في تطور بطيء وأحيانا متراجع علي المستوي الجمالي, وأصبح عدد من شعرائه امتدادا باهتا لجيل الخمسينيات الشعري, الأمر الذي دفع عددا من النقاد إلي الحكم عليهم بأنهم بعد رحلة كتابة استمرت مايزيد علي خمسة وثلاثين عاما علي أقل تقدير, مازالوا يكتبون قصيدة واحدة لم تنته بعد, من أول قصيدة منشورة إلي آخر ديوان مطبوع, معجم شعري واحد, لاتجديد فيه, وصناعة شعرية لاتتغير, علي أي نحو بنائي, وإنتاج غزير في مقابل أوزان شعرية محدودة مكرورة, وقصائد أفضل مايقال فيها إنها كلام مؤلف معقود بقواف, لم يمسه الشعر, ولاخفق فيه... أما الفريق الثاني من شعراء السبعينيات فكان أقل عددا, يمكننا أن نطلق علي هذا الفريق شعراء الاختلاف, وهم شعراء اهتموا بالتجريب الشعري, بحثا عن ممكنات جمالية جديدة, معتنقين مفهوما للشعر بصفته لعبا! حاولوا من خلاله أن يفقدوا نصوصهم قوتها التطهرية الكامنة فيها, كي تمتنع عن كونها أداة مصالحة مع الواقع. سمح هذا الوعي الجمالي المعاصر لكل جديد بأن يطل علي نصوصهم الشعرية من نوافذ تركوها مفتوحة علي أنواع أدبية أخري, فاهتموا ببناء العمل من أوله إلي نهايته في سبحة واحدة, بصفته خصيصة جمالية في نصوصهم الشعرية, واتجهوا إلي نصوص شعرية أرحب فتحت صدرها للسرد, وللشعر في النثر, وللإيقاع, التقليدي والمفتوح, وللصورة, وللرسم, مرحبة بكل الأصوات, وبحقها في التعبير حسب اقتضاءاتها الجمالية, فجاوزوا بذلك مفهوم الديوان بصفته مجموعة من القصائد التي كتبت في أوقات مختلفة, وفي مناسبات عديدة, واقتربوا بسلوكهم الجمالي هذا من حراك الشعر العالمي, ذلك دون أن يغضوا الطرف عن قيمة تراثهم الشعري العربي العظيم, وأهميته في آن.. هكذا, قام جزء مهم وجاد من الشعر السبعيني التجريبي علي الاستشراف, وكانت نصوصه فارقة علي المستوي الإبداعي, فاهتمت بالكشف, واستشراف الجماليات المستقبلية. لم يتحل الخطاب الإبداعي السبعيني التجريبي بخاصة, ومن لحق به تجاوزا من طليعة جيل سبعينيات الوسط, أو ما يطلق عليهم خطأ الآن جيل الثمانينيات, بأي حياء في تعامله مع القوي الجمالية التقليدية والمحافظة,فكرسوا لشعرية الاختلاف, ظهر ذلك في نصوصهم الإبداعية والفكرية, فاستبدل المشروع الإبداعي السبعيني, بالواحدية التشعب, وبالتماثل التداخل, وبالاتفاق التناقض, وبالوضوح الالتباس, وبالعمومية الفردانية, وبالنقاء التجاور... إلخ. ظهر هذا في أعمال حاولت خلق مساحات جمالية مستحدثة, تجاوز التراكم الجمالي الموروث. فاهتمت القصيدة السبعينية التجريبية بالكتابة, تلك التي غيرت اتجاه النص الشعري, من التصاقه بالدعوة إلي تحليقه في الفعل! ومن إرثه القائم علي السماع والمتعة, إلي مستقبله بصفته مادة للعب, وهذا ما أكسب النص الشعري طاقة تجاوزية جديدة, ومثل حدا فارقا بين طليعة أجيال السبعينيات في مصر, والعراق, والخليج, والمغرب العربي, وفي بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإيطاليا وأسبانيا واليونان والمجر, وغيرها, وبين الأجيال التي سبقتها. ذلك بعد أن اقترح مايسمي جيل السبعينيات العربي بخاصة, علي النص الشعري ممكنات جديدة, كانت لها ضرورتها علي مستوي تجديد الشعر العربي المعاصر, وللكتابة بقية.