عندما أعلن النائب العام المعين بقرار باطل، المستشار طلعت إبراهيم، استقالته من منصبه، خرج من مكتبه وسط احتفاء زملائه فى النيابة والقضاء، بموقفه الجديد. قلت لنفسى يومها: إن الرجل لا يستحق هذا الخروج الكريم (!)، ومع ذلك فلا بأس بذلك إذا كان ينهى عدوانا يقع على القضاء، ويفتح بابا لتصحيح أخطاء وخطايا يرتكبها الحكم وجماعته وحلفاؤه ضد العدالة ومؤسساتها. لا بأس بالخروج الكريم حتى إن كان الرجل لا يستحقه، بعد أن قبل على نفسه أن يأتى إلى موقعه بقرارات اعترف هو -بعد الاستقالة طبعا- بأنها باطلة! ولا بأس وإن كان ما فعله الرجل فى تحقيقات مذبحة «الاتحادية» هو كارثة حقيقية فضحها المستشار مصطفى خاطر، المحامى العامّ لنيابة شرق القاهرة، فى مذكرته لمجلس القضاء الأعلى التى تنتظر التحقيق.. والمساءلة! بعد الاستقالة قرأنا تصريحات عديدة للمستشار طلعت يؤكد فيها أن قراره نهائى، وأنه اتخذه للحفاظ على مكانة القضاء والنيابة، وأنه لا رجعة فيه مطلقا! لكن ها هو يعود فيتراجع عن استقالته، ويشعل الموقف من جديد، ويرفض الخروج الكريم وغير المستحق الذى تَحقَّق له! لا جديد بالطبع فى رجوع المسؤولين عندنا عن قراراتهم. أصبح التراجع هو الأصل فى القرارات الرسمية. الرئيس نفسه هو المثال الذى يُحتذى فى هذا الأمر. الحكومة سارت على نفس الطريق. «نورماندى تو» و«كلمتى مش هتنزل الأرض أبدا.. خلاص تنزل المرة دى» أصبحت هى أساس العمل الآن فى دولة تتفكك مؤسساتها، ولا أحد يعرف مصدر القرار فيها! لا أعرف كيف يتصور من أعادوا النائب العامّ بعد استقالته الوضع الكارثى للرجل وللنيابة العامة ولدولة القانون فى مصر. كيف سيتعامل الرجل مع زملاء يرفضون وجوده الباطل؟ وكيف يستقيم مع مواطنين لهم مصالح، ومع قضاة ومحامين مطلوب منهم أن يتعاملوا مع نائب عام من «مملكة نورماندى تو» التى تؤكد أن كلمتها لا تنزل الأرض، ثم نجد هذه الكلمة وهى تنزل الأرض، وتمسح البلاط، وتغسل المواعين بكل همة ونشاط! ومع ذلك فليست «نورماندى تو» هى المشكلة الأساسية فى قضية النائب العام، وإنما هى استقلال القضاء والنيابة الذى يتعرض لأفدح الأخطار. لقد كنا نظن -وبعض الظن ليس إثما- أن استقالة النائب العام هى بداية عملية تصحيح لموقف الحكم المعادى للقضاء، ولكن يبدو أن التصميم على ضرب استقلال القضاء -وحرية الصحافة أيضا- أمر لا تراجع فيه عند الحكم وجماعته، وأن الفاشيين الجدد يعرفون أنهم لن يستطيعوا تنفيذ مخططاتهم ما دام هناك قضاء مستقل وصحافة حرة، ومن هنا تأتى هذه الحرب المجنونة ضد القضاء وضد الصحافة، وهذا الإصرار على انتهاك القانون وعلى قمع الحريات، وعلى اغتصاب السلطة وتسليم مفاصل الدولة للأتباع والمنبطحين! لو كان الحكم يبحث عن مخرج لأزمته لتلقف استقالة النائب العام باعتبارها وسيلة إنقاذ له، وبابا لإنهاء الصدام مع القضاء، لكننا أمام حكم حسم أمره واختار طريقه، وأمام جماعة حددت هدفها، وهو إقامة الدولة الفاشية التى تهيمن على كل شىء فى مصر، والتى يعرفون أنها لن تقوم ما دام فى مصر قضاء مستقل وصحافة وشعب يقاتل من أجل حريته. إنهم يخدعون الناس بالقول إن تمرير الدستور الباطل سوف يفتح الباب أمام الاستقرار (!)، تمرير الدستور يعنى إطلاق يد الفاشيين الجدد لتكميم الأفواه وحصار المعارضة وأخذ الوطن رهينة فى أيديهم. إنهم يستعدون لدولة تعربد فيها الميليشيات ويسقط القانون، ويريدون أن تبقى العدالة مغلولة حتى يكملوا جريمتهم! مهزلة النائب العام ليست إلا تأكيدا جديدا على أن الفاشيين الجدد لن يتراجعوا، وأنهم قد حسموا أمرهم وسيفعلون كل شىء من أجل إقامة دولتهم المستبدة.. من حصار القضاء إلى استهداف الصحافة إلى عربدة الميليشيات. الشعب أيضا قد حسم موقفه رفضا لهم.. دستورهم سيسقط، ومخططاتهم ستفشل، وعدوانهم على القضاء سينهزم، والدولة التى يحلمون بها قد تقوم فى أفغانستان، ولكن أبدا.. ليس فى مصر