يدور التساؤل باستمرار عن موقف حزب مصر القوية وبالأخص موقف رئيسه من الأحداث الجسام التى تمر بها مصر؟ والتساؤل يبدو منطقيًّا ومتفهَّمًا فى ظل سلطة أمسكت بزمام الأمور منذ الثالث من يوليو لعام 2013، فاعتبرت أن لا صوت يعلو فوق صوتها، وأن لا سياسة فى هذا البلد إلا ما ارتآه الرئيس ونظامه، سلطة تعتبر تعدُّد الآراء خيانة، ونقد مواقفها جريمة، سلطة تعتبر أن تعدُّد السلطات وتوازنها والفصل بينها بدعة منكرة لا حاجة لمصر بها، سلطة تعتبر أن السيادة ليست للشعب، ولكنها لأركان أجهزة الدولة التى لا رقيب عليها ولا حسيب، إلا أننا منذ الثالث من يوليو، لم تتح لنا فرصة أو مساحة لنعرض فيها رأيًا أو نرفع فيها صوتًا إلا فى إطار محدود ضاق تدريجيًّا حتى تلاشى ذلك الإطار تمامًا. لعل هذه فرصة أطرح فيها بعض الآراء والمواقف لحزب مصر القوية طوال عامين ونصف مضت، وأطرح فيها رؤية لما هو مأمول، لعل فيها ما يجبر أطرافًا على الاستماع إلى صوت مختلف يحاول أن يعلى صوت العقل على أصوات الصراخ والعويل والتخوين والتكفير التى علا صوتها قسرًا أو عاطفة، فوق كل ما عداها من أصوات. «1» نشأ الحزب فى نوفمبر 2012 مع أزمة الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس المعزول د.محمد مرسى، منفردًا دون مشاورة، فظهرت حالة الصدام العنيفة بين القوى السياسية المؤيدة له من جانب، والمعارضة له من جانب آخر. لم تكن -فى تقديرنا- أزمة الإعلان الدستورى وقتها فى إبعاد النائب العام المعين من قبل نظام مبارك الذى ثار عليه الناس والذى كان مطلبًا ثوريًّا بامتياز فى ميدان التحرير طوال أيام ثورة يناير المجيدة، ولا فى مبدأ إعادة المحاكمات وفق قواعد سليمة، لا تستند إلى ما سنّه نظام مبارك وأجهزته من مبادئ قانونية وإجراءات جنائية، ولكن الأزمة الحقيقية كانت فى بعض بنود الإعلان الدستورى، مما أشار إلى خلط الرئيس ومعاونيه وحزبه بين العمل الثورى والإصلاحى فى آنٍ واحد، فقد كان هناك تهاون واضح، بل وتواؤم مع أجهزة القمع والفساد فى «الداخلية» والجهاز البيروقراطى كوسيلة إصلاحية من جهة، فى مقابل رغبة فى الانفراد بالتشريع وتهميش الرقابة على السلطة كوسيلة ثورية مدعاة من جهة أخرى. لم يكتفِ الرئيس بهذا التناقض فى الجمع بين المسارَين الإصلاحى والثورى، ولكنه أصدر ذلك الإعلان الدستورى دون تشاور مع جهات كثيرة معنية، بما فيها مستشاروه بل ونائب رئيس الجمهورية، وهو أحد القضاة الأجلاء، مما أدَّى إلى تفاقم الأزمة وتعميقها وإثارة الشكوك حول نيَّات الرئيس، الذى قابلته فى قصر الاتحادية قبل إصدار الإعلان الدستورى بأيام قليلة وأبديت له كامل استعدادى للتعاون فى ما يريده لمصلحة الوطن دون تولّى أى مسؤولية. فضلنا فى حزب مصر القوية فى ظل هذه الأزمة العاصفة أن لا نكون جزءًا من جبهة الإنقاذ التى عُرض علينا أن ننضم إليها، حيث فضلنا أن نبذل قصارى جهدنا لحل الأزمة فى إطار يحافظ على إقالة النائب العام وعلى مبدأ إعادة المحاكمات دون انجرار إلى مساحات انقلاب على الرئيس المنتخب ديمقراطيًّا من خلال إثارة الشارع واستغلال الأزمة لمكاسب ضيقة. تواصلنا مع نائب رئيس الجمهورية، المستشار محمود مكى، ورئيس ديوان رئاسة الجمهورية، السفير رفاعة الطهطاوى، ومدير مكتب الرئيس، الدكتور أحمد عبد العاطى، وقدمنا مبادرة متكاملة للحل لا تكتفى بمعالجة آثار أزمة الإعلان الدستورى فقط، ولكنها تمتد إلى ضبط تشكيل الجمعية التأسيسية، وضمانات للتوافق على مسوَّدة الدستور قبل طرحها للاستفتاء، والتوافق على قانون عادل للانتخابات البرلمانية، ولكن الرئاسة تجاهلت الأمر برمته رغم إبداء استعدادى الشخصى لتحقيق التوافق المطلوب من كل الأطراف حول الخطة الزمنية المقترحة لتنفيذ المبادرة المقدمة إلى رئاسة الجمهورية، وفضَّلت الرئاسة أن تقدّم حلولًا مسكنة تضمن تسيير خطتها فى إخراج دستور أبرز ما يعيبه المحافظة على طلبات القوات المسلحة من جهة والمؤسسة القضائية من جهة أخرى ومتشددى الإسلاميين من جهة ثالثة، بدلًا من أن تصل إلى توافق يدعم مطالب الثورة التغييرية. «2» لم تكن أزمة الإعلان الدستورى هى العقبة الوحيدة فى تحقيق توافق بين قوى الثورة التى توحَّدت على عدم عودة النظام القديم متمثلًا فى الفريق شفيق فى أثناء انتخابات الإعادة الرئاسية فى يونيو 2012، فقد كانت هناك أزمة أكبر وهى المتعلقة بدستور الثورة المفترض. أبدى حزب مصر القوية من البداية اعتراضه على طريقة المحاصصة التى شكَّلت بها الجمعية التأسيسية قبل نشأة الحزب، واعتبرها سيرًا فى المسار الخطأ، فتقسيم الجمعية وفق مقياس (إسلامى/ علمانى) كان انحرافًا عن مسار الثورة ومقياسها، لذا كان من الطبيعى أن تهمل رموز وكفاءات مصرية مستقلة فى هذه الجمعية التى ولدت معيبة، إلا أن الحزب رغم ذلك تعامل بإيجابية مع مسودات الدستور المتتالية التى أصدرتها الجمعية، وأبدى الحزب ملاحظاته وقدَّم مقترحاته وتواصل مع الجمعية ذاتها ورئاسة الجمهورية وحزب الوسط، للوصول إلى صياغة معقولة تحافظ على أهداف الثورة التغييرية من جهة، وعلى مساحة أكبر من التوافق من جهة أخرى، ولكن دون وجود أثر ملموس للملاحظات. استجابت الجمعية التأسيسية إلى كل الطلبات المقدمة من مؤسسات الدولة العسكرية والقضائية، إضافة إلى طلبات متشدّدى الإسلاميين، ولكنها لم تتعاطَ بأى شكل إيجابى -فى المجمل- مع مقترحاتنا أو مقترحات القوى الشبابية أو الثورية المختلفة، فاستقر الحال فى النهاية على مسوَّدة سمحت لأول مرة فى تاريخ مصر بدسترة صريحة للمحاكمات العسكرية للمدنيين وبوصاية عسكرية على الحياة السياسية من خلال مجلس الدفاع الوطنى ذى الأغلبية العسكرية الواضحة من جهة، وبسلطات واسعة لرئيس الجمهورية من جهة ثانية، وببقاء القضاء بوضعه من جهة ثالثة، وبنصوص مطاطة للحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمصريين من جهة رابعة، وبنصوص مطاطة لمواد الأخلاق لإرضاء السلفيين من جهة خامسة. مرّ الدستور فى النهاية على غير التوافق، مرّ من خلال شعارات مفتتة فى عضد الثورة من قبل السلطة ومؤيديها وكذلك جبهة الإنقاذ، ومن خلال سيف الاستقرار الذى توهمه الكثيرون إذا تمت الموافقة على الدستور. كان استفتاء الدستور بهذه الطريقة شرخًا آخر فى مسار الثورة المصرية، ورغم ذلك سعينا بمبادرة من المستشار محمود مكى، نائب رئيس الجمهورية، إلى التوافق حول تعديلات ضرورية تجرى على الدستور بعد انتخاب البرلمان، حرصًا على تجاوز الأزمة وجبر الشرخ الذى صار اتساعه خطرًا على الثورة كلها، إلا أن التعهُّد بإحداث التوافق المنشود على تعديلات دستورية ولو كانت بسيطة، لم يتم الوفاء به. «3» صارت مصر منقسمة إلى فسطاطَين كبيرَين، ولم تبد فى الأفق أى بادرة للتقارب بين الفريقين، فالفريق الحاكم استمر فى التحرُّك داخل دائرة مؤيديه فحسب، وفريق جبهة الإنقاذ اعتبر أن تحالفه مع فلول نظام مبارك مشروع بل ومطلوب فى مواجهة أعدائه التاريخيين. استمرت الرئاسة فى طريقها، معتمدة على مساندة مفترضة من القوات المسلحة وقائدها العام، فلم تعبأ بنقد إيجابى ولم تسعَ إلى توافق جاد ورفضت تقديم أى تنازلات، فازدادت الأمور سوءًا وكثرت الاضطرابات، وزاد الأمور سوءًا أن الحكومة المعينة من رئيس الجمهورية لا تملك خطة ولا تقدّم رؤى ولا تحسن خدمات، وأُغلقت كل السبل أمام كل مَن سعى لتحقيق توافق على حد أدنى من الطلبات، ورفضت رئاسة الجمهورية أن تغيّر حكومتها، بل وأن تغيّر حتى اللواء/ محمد إبراهيم وزير الداخلية، رغم الانتهاكات التى حدثت فى عهده. كانت القاصمة حين تم تقديم القوانين المنظمة لعملية الانتخابات البرلمانية وبها عوار دستورى ظاهر بشكل يثير الشكوك حول أنها ما يحدث الآن) فى ظل تناقص شعبية حزب الرئيس فى الشارع. لم يعد هناك من حلٍّ قدّمت بهذا الشكل حتى تؤجل الانتخابات أطول فترة ممكنة (وهو عين سياسى مباشر أو غير مباشر لتلك الأزمة المستحكمة، جماهير بدأت فى الاحتكاك فى الشارع، ورئيس جمهورية عاجز عن حماية مقراته التى تمت مهاجمتها والتعدِّى على مَن فيها من خلال مجموعة من البلطجية المستأجرين تحت ستار سياسى، وتجاهل من قوات الأمن. لم يعد هناك من حل سوى التوافق الوطنى الشامل أو العودة للجماهير من خلال الصندوق الانتخابى لحسم الأمور، إما لصالح الرئيس وحزبه، وإما لصالح طرف جديد يسعى لتحقيق ما فشل فيه الرئيس المنتخب الأول. كان الحل الثانى هو المقترح بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة أو استفتاء دستورى على بقاء الرئيس فى منصبه من عدمه، نظرًا للعناد أو التربُّص البادى من الفريقَين، وصار كل تأخير فى الحل بصورتَيْه يقربنا من سيناريوهَين اثنين لا ثالث لهما: إما الفوضى الشاملة، وإما انقلاب عسكرى صريح يهدم مكتسب ثورة يناير الوحيد، وهو القبول بالصناديق كمعبرة عن سيادة الشعب واختيار حكامه بشكل ديمقراطى. وصلنا إلى الثلاثين من يونيو، وأصر كلٌّ على موقفه، زادت علامات الإنذار.. أصدر الجيش بيانه السياسى الأول، ولم ينتبه أحد إلى عمق الأزمة وتوابعها الكارثية، إما جهلًا بطبيعة المشكلة وانحيازًا مع الجهة الخطأ، وإما استرواحًا لرؤية تنظيمية قاصرة قائمة على اختيار «فليكن انقلابًا إذن». تواصلنا مع كل الأطراف: مع الرئاسة، ومع الإخوان، ومع جبهة الإنقاذ، ومع رئيس مجلس الشورى، بل ومع وزارة الدفاع، ولكن دون جدوى، أصرَّت الرئاسة على موقفها الصِّفْرى، وقبلت جبهة الإنقاذ أن تكون معولًا فى تسليم زمام الثورة إلى أعدائها. حدث ما حذَّرنا منه فى العلن وفى الغرف المغلقة، فقد أعلن وزير الدفاع تنحية الرئيس المنتخب دون الرجوع إلى الشعب، وصلنا إلى نقطة الخطر التى كنا نخشاها، فرِح مَن فرِح، وغضب مَن غضب، ولكن لم يستوعب أحد أن الأسوأ قادم. رغم رفضنا الصريح لهذا الحل العسكرى حتى إن كان مستندًا إلى رغبة شعبية فإنها تبقى غير معبرة تعبيرًا يمكن الاطمئنان إليه بأنه يمثّل إرادة الأغلبية، صاحب رفضنا لذلك الحل الاستجابة إلى دعوة النظام الجديد، حرصًا على حثّه بالعودة إلى الشعب مرة أخرى لحسم الخلاف باستفتاء على خارطة الطريق المعلن عنها، إلا أن الرغبة الحقيقية كانت «أن لا مكان للديمقراطية مرة أخرى»، وأن التفويض والحشد هما عنوان المرحلة الجديدة، نتيجة لذلك آثرنا عدم الاصطفاف مع السلطة الجديدة واستكمال اللقاءات معها. «4» أصبح الثالث من يوليو عنوانًا لمرحلة جديدة قائمة على العصا الغليظة لكل المعارضين من جهة، وعلى الشحن والتخوين والتحريض ضد كل مخالف فى الرأى من جهة أخرى. أغلقت قنوات تليفزيونية بلا أحكام قضائية، ومُنعت مقالات فى الصحف، ونُشرت مكالمات تليفونية خاصة لشباب ثورة يناير، فى انتهاك صريح لكل الأسس الدستورية والقانونية المصرية والعالمية، وفتحت السجون على مصراعيها بلا أى ضوابط ودون التزام بنصوص قانونية دستورية كانت أو غير دستورية. عادت آلة القمع بأسرع ما يكون، أُحرق مساجين فى سيارة ترحيلاتهم وتم التستُّر على الفاعلين، صارت الانتهاكات البدنية فى مخافر الشرطة وفى أقبية السجون أمرًا معتادًا ومألوفًا، ولم يعد الأمر مقتصرًا على انتهاك لأجساد الشباب، بل امتد إلى أجسام البنات فى الشوارع وفى الأقسام دون رادع ولا ضابط، فى سابقة لم تحدث من قبل، ولكن الأخطر فى ما تمثله -الانتهاكات بحق الفتيات خصوصًا- من إثارة لاحتقان وغضب لا يمكن التحكُّم بهما أبدًا. صارت أحكام الإعدام أمرًا مألوفًا دون حاجة إلى تقديم أدلة مقنعة على تهم كان كثير منها هزليًّا، سجن آلاف بمحاكمات سريعة لا تفى بمقاييس بسيطة للعدالة، وغُيّب عشرات الآلاف دون محاكمة تحت وطأة مدّ فترة الحبس الاحتياطى. أصبحنا نعيش حقًّا فى جمهورية الخوف، ولم يقتصر الأمر على فصيل دون آخر، بل امتد الأمر إلى كل المعارضين، من خلال تلفيق قضايا، أو من خلال الخطف والإخفاء القسرى أو من خلال حملات تشويه ممنهجة قائمة على الاغتيال المعنوى لكل معارضى النظام أيًّا كانت انتماءاتهم. صرنا تحت أسر نظام الصوت الواحد الذى يتصرَّف فى البلاد والعباد بلا رقيب ولا حسيب. فى المقابل باتت تهديدات الإرهاب جدية، وصرنا عاجزين عن فهم ما يحدث فى سيناء التى قتل فيها عشرات من جنود مصر بلا رحمة ولا حماية، وصار هناك توجُّه جديد للعنف ضد الدولة ومؤسساتها والمنتسبين إليها، وصرنا -كمصريين- محصورين بين مطرقة القمع وسندان الإرهاب. هذا هو واقعنا المر بعد الثالث من يوليو، وحتى اللحظة.. دولة تحكمها سلطة واحدة وفرد واحد، وإرهاب وتكفير ينمو ويتغذَّى من قمع السلطة وديكتاتوريتها. «5» ما أسهل أن نعتبر أن الأمر انتهى، وأن نظام مبارك قد عاد فى أسوأ صوره، وأن ننتظر خرابًا نراه محلّقًا فى الأفق فى ظل سلطة عاجزة عن إدارة بلد بحجم مصر. ما أسهل أن نشاهد حفلات البروباجندا المتتالية التى تهدف إلى خداع الناس بأوهام لا سند لها من واقع ولا من كفاءة ولا من قدرة! ما أسهل أن نضحك على فضيحة جهاز الكفتة! وما أسهل أن نشاهد مؤتمرًا اقتصاديًّا كان نصيبه من الصور التذكارية أكثر من نصيبه من دراسات الجدوى الحقيقية أو من المشاريع الجادة المنشغلة بهموم سكان مصر المطحونين! ما أسهل أن ننتظر حفلة تفريعة قناة السويس التى لا نعلم عائدها المرجو حتى الآن! ما أسهل أن نتحسّر على تردّى الخدمات التعليمية والصحية والأمنية وغيرها وعجز الحكومة البالغ عن التعامل مع مشكلات مصر صغيرها وكبيرها! ما أسهل أن نفعل كل ذلك منتظرين مصيرًا لا يخطئ أبدًا إذا جاوز الظلم مداه وصار الأمر موسَّدًا إلى غير أهله! ولكننا ما زلنا نراهن على صوت عقل يستفيق، فيحافظ على ما تبقَّى لنا من تاريخ ومؤسسات وشعب. «6» إنه فى ظل الظروف الإقليمية بالغة السوء التى تمر بها المنطقة، وفى ظل الاحتقان البالغ الذى نعيشه فى مصر سياسيًّا بل واجتماعيًّا، لم نعد نملك رفاهية انتظار نتائج فشل متوقع أو رغبة فى انتقام. مصر فى حاجة فورًا إلى تقديم تنازلات من الجميع أيًّا كانت المخاوف وأيًّا كانت المظالم، فالمخاوف المحتملة أكبر بكثير من الحالية، والمظالم القادمة ستفوق الحاصلة. لا تعنى التنازلات المقصودة هنا أن يُعفى عن قاتل أو أن يتم التسامح مع مجرم، فذلك متروك للعدالة لا ريب، ولكنها تعنى أن نقدّم المصلحة العامة على الخاصة مهما كان عِظم شأن تلك المصالح الخاصة، وتعنى أن ننظر إلى المستقبل بأكثر مما ننظر إلى الماضى. لا تعنى التنازلات المقصودة أن نقبل باستمرار آلة القمع، أو أن نسمح بتمدُّد الإرهاب، ولكنها تعنى أن نتوافق على إنشاء دولة قانون عادل يحكم الجميع بلا تفرقة ولا تمييز، وأن تصبح السيادة فيها للشعب دون وصاية من أى مؤسسة أو فئة كانت. لقد آن لنا جميعًا أن ندرك أن مصر على حافة منحدر عظيم، وأن مَن يجادل فى ذلك إما أنه مُغيَّب وإما أنه صاحب مصلحة فى استمرار تردّى الوطن وانسحاقه. «7» إننى أعيد هنا طرح ما قد قدمناه من قبل للنقاش حوله بعد تنقيحه وتعديله وفقًَا للظروف الحالية، وللتباحث بشأنه من كل العاقلين المهتمين بمستقبل هذا الوطن وبكرامة أبنائه، إسهامًا منا فى دفع عجلة صارت تعود إلى الخلف بأسرع مما نتخيَّل، فباتت أقرب إلى الانحدار والوقوع فى الهاوية، وذلك قبل فوات الأوان. رؤية لحل الأزمة: أولًا- العدالة الانتقالية: لن يكون هناك أمل فى انطلاقة صحيحة نحو المستقبل دون تضميد لجراح الماضى، جراح الآلاف الذين سقطوا بين شهيد ومصاب دون محاكمة عادلة وشفافة للمتهمين بقتلهم، ودون تمييز بين مصرى وآخر، ودون محاباة لصاحب سلطة سابق أو حالى، عدالة انتقالية تفتح باب مصالحة شاملة قائمة على العدل الذى قد يقبل بالتسامح والتعويض القائم على الرضا لا القهر والجبر، على أن يصاحب ذلك تشكيل لجنة قومية مستقلة للعدالة الانتقالية مكونة من قضاة وأساتذة قانون وعلوم سياسية واجتماعية مستقلين مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، على أن تعطى هذه اللجنة جميع الصلاحيات والإمكانات للتحقيق والبحث حول كل ملفات القتل والتعذيب والانتهاكات طوال الفترة الماضية. ثانيًا- الحقوق والحريات: الإفراج الفورى عن جميع المحتجزين تحت الحبس الاحتياطى غير المدانين فى قضايا الإرهاب والقتل. الإفراج الفورى عن الطلاب والسيدات وكبار السن وذوى المشكلات الصحية الواقعين تحت الحبس الاحتياطى. مراجعة جادة لجميع الأحكام الصادرة بحق المحكوم عليهم خلال الفترة الماضية. الإفراج عن أو إصدار عفو عام عن قيادات جميع التيارات المعارضة التى لم يثبت بدلائل واضحة معلنة تورطها فى أى جريمة. الفصل السريع والفورى فى الإجراءات التعسفية، مثل المنع من السفر والتحفُّظ على الأموال دون سند قانونى باتّ، ووقف كل إجراءات انتهاكات الحياة الشخصية وتفعيل مواد الدستور الحافظة للحريات الشخصية، والمحاسبة العاجلة لكل مَن ينتهك هذه الحريات. تقليل دوائر الاشتباه، والإفراج الفورى عن المسجونين غير المتهمين بجرائم فعلية، مع الوقف عن العمل لكل الأفراد المتهمين بانتهاكات حقوقية بحق المواطنين الأبرياء فى سيناء وفى غيرها. المحاكمة السريعة والناجزة لكل مَن تورَّط فى انتهاكات حقوق الإنسان سواء فى السجون أو فى أقسام الشرطة، أو فى قتل أو إصابة متظاهرين سلميين. محاكمة كل مَن تورَّط فى التنصُّت على مواطنين أو نشر مكالماتهم الخاصة فى وسائل الإعلام المختلفة. ثالثًا- الإعلام: تفعيل ميثاق الشرف الإعلامى بالاتفاق بين وسائل الإعلام والأحزاب والمجتمع المدنى والحكومة بشكل متوازن يحافظ على الحريات ويمنع من بثّ الكراهية أو التحريض، بما لا يسمح بفرض رقابة حكومية على وسائل الإعلام أو تقييد لحرية التعبير، مع مراقبة قضائية ومجتمعية لأى أداءات إعلامية تحض على الكراهية أو القتل أو الإرهاب واتخاذ إجراءات قانونية عاجلة بشأنها، كأمر لازم لتحقيق عدالة انتقالية قائمة على المصالحة المجتمعية. رابعًا- التشريع والرقابة: التوقُّف التام عن إصدار قوانين فى ظل غياب مجلس النواب، ووقف العمل بكل القوانين المخالفة للدستور ولمواثيق حقوق الإنسان، مثل قانون التظاهر وقانون مدّ الحبس الاحتياطى وتعديلات قوانين الجنايات، وغيرها. إقامة حوار جاد حول قانون الجمعيات الأهلية بما يتيح حرية العمل الأهلى بلا قيود، على أن يكون القانون مبنيًّا على حرية التنظيم وحرية المجتمع المدنى دون وصاية تنفيذية مع رقابة شفافة على التمويل. التوافق على قوانين منظمة للعدالة الانتقالية وفق التجارب الدولية فى هذا المجال. إلغاء عقوبة الإعدام فى الفترة الحالية. خامسًا- سياسة الدمج: بناء أى نظام ديمقراطى حقيقى يتطلَّب دمج كل التيارات الموجودة فيه والقبول بها كلاعب سياسى ما دام الجميع قد اتفق على شروط العمل السياسى وتداول السلطة، على أن يكون هذا الدمج قائمًا على القبول بالآتى: العمل السلمى. العمل العلنى. الالتزام بالدستور والقانون. عدم خلط بين العمل الدعوى والعمل الحزبى. عدم السماح بخطاب تحريضى أو طائفى. حياد مؤسسات الدولة الرسمية، وعدم مشاركتها فى العمل الحزبى بشكل خاص أو السياسى التنافسى بشكل عام. أخيرًا.. هذه مجرد رؤية قابلة للنقد والتعديل والتنقيح، ولكنها تحتاج قبل النظر فيها إلى أن ننظر إلى الحال التى وصلت إليها مصر، وإلى المستقبل الذى قد ينتظرها فى حال استمرار أوضاعها المتردية الحالية، حتى تتسع الرؤية وحتى ننقذ ما يمكن إنقاذه. «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».