كانت نيّتى أن أتابع ما كتبته فى المقال السابق الذى تكلَّمت فيه عن تجربة حكم الجيش للدولة، لأتكلَّم فى هذا المقال عن حكم الدولة باسم الدين كذلك، القوتان العظميان فى الداخل واللتان لا تسمحان عمدًا بأى تطوُّر أو نجاح لأى قوى سياسية مدنية، رغم أن الأخيرة هى الأحق بفكرة حكم الشعب للشعب، والتى هى آخر الأمر التعريف العلمى لكلمة الديمقراطية، ولكننى قررت أن أؤجل المتابعة للأسبوع القادم ونحن على أبواب الشهر الكريم، لأنى أردت هذا الأسبوع أن أتكلَّم عن الحب! عن الرحمة والمودة. يقول الدكتور مصطفى محمود فى كتابه «عصر القرود»، وأنقل منه سطورًا متفرّقة تحت عنوان «الحب لا.. الرحمة نعم»، يقول «إنها الرحمة مفتاح البيوت، فالحب فيه القسوة والمصلحة، ولكن الرحمة تحتوى على الحب بالضرورة، بينما الحب لا يشتمل على الرحمة، فالرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة، ففيها الحب والأخوة والصداقة والحنان، وفيها التضحية وإنكار الذات والتسامح والعفو والكرم. كلنا قادرون على الحب، ولكن قليلًا منا هم القادرون على الرحمة، وأهل الرحمة هم أهل النور والصفاء والبهاء، وهى خاتم الجنة، ولا يؤتى الرحمة إلا كل شجاع نبيل من أهل الأرض، تعرفهم بسيماهم ووضاءتهم، وعلامة الرحيم هى الهدوء والسكينة والسماحة والحلم والوداعة والصبر ومراجعة النفس قبل الاندفاع فى ردود الأفعال، والرحماء قليلون، لكنهم أركان الدنيا وأوتادها التى يحفظ الله بها الأرض ومَن عليها». تمتلئ شوارع مصر وأزقتها بمَن هم فى حاجة إلى رحمة قلبك، تجدهم حولك فى كل مكان، أطفال صغار يبيعون الورود فى إشارات المرور، سيدة عجوز مسكينة تجلس تحت نار الشمس فى الجزيرة الوسطى من الشارع تبيع المناديل الورقية.. من السهل عليك أن تقرض رجلًا غنيًّا أمينًا ثم تنام مطمئنًا أن مالك فى أمان وأن حقّك محفوظ. ولكن اغمض عينيك للحظة وحاول أن تتخيَّل معى أن أباك العجوز يطرق على بابك، ويقول لك فى خجل وتردد أنه محتاج إلى مساعدتك، أو أنها أمك تقول لك «أنا جائعة»، ثم تخيَّل أن مَن يطلب منك المساعدة هو الله ذاته، سبحانه وتعالى، وهو خالقك وهو أغنى الأغنياء وملك الملوك، قرضًا تعطيه لمسكين نيابة عنه وسيرده لك أضعافًا «من ذا الذى يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون»، صدق الله العظيم. إنى أدعو كتائب المسلمين أن تنزل فى هذه الأيام المباركة إلى الشوارع، لا لكى تنشر الرصاص والقنابل، ولكن لكى تنشر الرحمة والحب، تظلل به على كل مسكين، نريدها كتائب مصرية خالصة، ولن تكون مصرية إلا إذا شارك المسيحيون فيها أيضًا، أحلم أن تشاركنا الكنائس صلوات العيد، لكى تكون صلاة واحدة مجمعة تصدر من كل بيت فى مصر يذكر فيه اسم الله. وإذا كنت فقيرًا رقيق الحال لا تملك سوى لقمة واحدة فاقتسمها ولا تخف فسوف تشبع بما هو أجمل من الطعام. لا تختلق تلك الحجج والأعذار التى كثيرًا ما نسمعها من فريق الفاهمين العارفين، وما أكثرهم فى بر مصر! «ده غنى وأغنى منّى ومنك، ده حياخد الفلوس يشرب بيها مخدرات ولّا يشم بيها كولَّة! ما يروح يشوف له شغلانة.. أصل أنا عارف الناس دول وفاهمهم كويس! أنا فاهم كل حاجة!!» لا تدَّعى أنك أذكى الأذكياء وأنك قادر على فهم النيَّات والدخول فى القلوب، لا تدَّعى العلم بنيَّات غيرك واكتفِ بنيَّاتك أنت لو سمحت! تمامًا كهؤلاء الذين يرفضون إفساح الطريق لسيارة الإسعاف ويقولون «أصلها فاضية!!»، فأنت من حيث تدَّعى العلم والذكاء والمفهومية تكون فى الحقيقة أبعد ما تكون عن كل ذلك! إن النيَّات لا يعلمها إلا الله، وأن شأنك هو فى نيَّتك أنت وضميرك أنت وليس فى نيَّات وضمائر غيرك، إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، ساند ساعد بادر فورًا بالمودّة والرحمة صافية من داخل قلبك لكل البشر، قريبهم وبعيدهم، بغير تردد أو تشكك، ثم اترك ما عدا ذلك لله. كن رحيمًا حنونًا بغير قيد ولا شرط ولا تمييز. فقط افعل ما عليك، فالعبرة بنيّتك أنت لا بنية الذى يتلقَّى منك شيئًا. لقد همّ أسامة بن زيد بقتل كافر، فما كان من الأخير إلا أن نطق بالشهادتَين، ولكن أسامة قتله رغم ذلك، فلما بلغ الخبر رسول الله غضب منه، وقال له مقولته الشهيرة «هلا شققت عن صدره؟»، فندم أسامة على ذكائه لدرجة أنه تمنَّى أنه كان كافرًا!! وأنه قد أسلم بعدها! تذكَّر أنه فى يوم القيامة ستكون مفاتيح الجنة بيد هؤلاء المساكين، وسيكونون هم الأقرب إلى أبوابها، وسيكون رسول الله بينهم هم، وسوف تتمنَّى من قلبك أن تكون أنت أيضًا بينهم فى الآخرة من حيث كنت تتشاغل عنهم فى الدنيا وتدير وجهك مُعجبًا بذكائك الخارق! صاحبهم فى الدنيا لكى يصاحبوك فى الآخرة، قال رسول الله «اللهم أحينى مسكينًا وأمتنى مسكينًا واحشرنى فى زمرة المساكين».