الشيخ محمد الغزالى هو أحد صقور التطرف الإسلامى منذ أربعينيات القرن الماضى، وهو تلميذ مباشر للشيخ حسن البنا، وكان عضوًا فى جماعة الإخوان المسلمين، وفى عام 1945 كتب مقالًا عن جماعة الإخوان والأحزاب السياسية، أكد فيه قناعة الجماعة بعدم الجدوى من هذه الأحزاب، وفى المقال راح يسفّه من فكرة الأحزاب أساسًا، مما دفع حسن البنا إلى أن يكتب له رسالة ثناء شديدة اللهجة على هذا المقال، داعيا كل أبناء الجماعة إلى الاقتداء بهذا النموذج فى الكتابة، واصفًا الشيخ الغزالى بأنه «أديب الدعوة». كانت هذه الرسالة رافعة قوية لكى يتنفس محمد الغزالى بقوة، وتصبح له مصداقية بين جماعته، وكان يتصدى للأفكار الليبرالية الكبرى التى كانت تجد قبولا وصدى ورواجا، وكانت البداية اللافتة لأشكال التصدى هذه، عندما كتب الشيخ خالد محمد خالد كتابه «من هنا نبدأ» عام 1950، وصودر الكتاب بعدما تحرك بعض المتطرفين فى مواجهة الكتاب وصاحبه، لكن تم الإفراج عن الكتاب بحكم تاريخى شهير، وكتب الشيخ عبد المتعال الصعيدى كتابًا موازيا يناقش فيه الشيخ خالد مناقشة موضوعية، وكان عنوان الكتاب «من أين نبدأ»، لكن هذا لم يعجب الشيخ الغزالى، فشن هجوما شرسا على الشيخين وضمنه كتابه «من هنا نعلم». ولم تكن هذه هى الواقعة الأولى ولا الأخيرة للشيخ الغزالى، بل هو الفاعل الأكبر فى مصادرة رواية «أولاد حارتنا»، بعد أن تشكلت لجنة عام 1960 اسمها لجنة الفتوى فى وزارة الأوقاف، رغم عدم اختصاص الوزارة بتكوين مثل تلك اللجان، وفى اجتماع هذه اللجنة صدر تقرير مفصل لمصادرة الرواية، وهذا ما عطلها أكثر من أربعين عاما لتكون بعيدة عن جمهورها الطبيعى، وكان رئيس هذه اللجنة الشيخ سيد سابق، كما روى سكرتير اللجنة الذى حضر هذا الاجتماع، أقصد الكاتب والأديب سليمان فياض. وكان الشيخ الغزالى بعد ذلك عاملا متطرفا وموغلا فى تحريض الجماعات المتشددة، رغم انفصاله عن جماعة الإخوان المسلمين بعد اختلافه مع الشيخ حسن الهضيبى، المرشد الثانى للجماعة، وظل الغزالى يعمل كرأس حربة فى مساحات التحريض، التى قلّبت المتطرفين على الكتّاب والأدباء والمفكرين، ويكفى فقط أنه شهد فى قضية مقتل فرج فودة، بأنه كافر، وهذه قرينة لتبرئ قاتله، وكذلك مقالاته الشهيرة، التى هاجم فيها المسيحيين بشكل واضح وسافر، وضمها فى كتابه «قذائف الحق». لا تكفى هذه السطور لسرد مسيرة الشيخ الغزالى، لكننى فقط أريد أن أرصد معركة مهمة نشبت فى مصر، وذلك عندما كان الرئيس جمال عبد الناصر يعقد مؤتمرات وحوارات شبه يومية، ويناقش فيها كتل المجتمع المختلفة لإقرار وثيقة الميثاق الوطنى عام 1962، وكان يتحاور مع كل الرموز والمستويات والفئات، وكانت الصحف والمجلات تنشر هذه الحوارات كاملة. وأثار عبد الناصر قضية المرأة والحجاب، وكشف عن محاولة الشيخ حسن الهضيبى فى إقناع جمال عبد الناصر بعد قيام الثورة مباشرة، بفرض الحجاب على المرأة، وقال عبد الناصر: «الشيخ الهضيبى.. شفته فى أول الثورة، وقالى أنا طالب منك إنك تفرض الحجاب، وماتخليش المرأة تمشى فى الشارع إلا وهى يعنى محجبة، وتقفل السينمات وتقفل المسارح.. ده فى أول أسبوع فى الثورة..»، وبالطبع كان ردّ جمال عبد الناصر مجحفا وذكيا على الشيخ الهضيبى. وفى هذا الاجتماع تحدث الشيخ الغزالى عن وضع المرأة فى الميثاق، فقال كلاما أغضب الدكتورة حكمت أبو زيد، التى انتقدت وجهة نظره، ومحاولته تحجيم دور المرأة، وتقليصه فى بضع وظائف بيولوجية، وانتقدت أبو زيد محاولة الغزالى تأجيج الصراع بين الجنسين، وردّ الشيخ الغزالى قائلا: «إننى لم أقصد أن أقيم خصومة بين الجنسين، وكل ما أريده أن يلتزم كل من الجنسين حدوده.. إن الرجل هو الجنس الأقوى فى البيت والمجتمع، فلا خلاف فى أن الرجل له فضله الذى حدده الإسلام، ولهذا أوجبنا عليه النفقة للمرأة وللأولاد، أما ما تعرضت له من ملابس، فذلك لأن الرجل يلبس ملابس تكسوه من رأسه إلى قدمه، أما النساء فعاريات الصدر والسيقان، ثم قال: إن القيادات فى العالم أجمع فى أيدى الرجال، لأنهم الجنس الأخشن، حتى فى الحيوانات ترى أن الكبش أقوى من المعزة، ونحن لا نريد أن نجعلها مبارزة بين الرجال والنساء». اللافت للنظر أن هذه المناقشات التى كانت تحدث بين الجميع شدا وجذبا وانتقادا للميثاق، كانت تدور أمام جمال عبد الناصر، دون أى حذف، وليت هذه المناقشات يعاد طبعها ونشرها وتعميمها، ربما تفيدنا فى الوقت الحاضر. أعود إلى كلمة الغزالى التى أثارت الرأى العام بشدة، وصدرت الصحف حاملة كثيرا من السخط على هذه الكلمة، ففى 1 يونيو عام 1962 نشرت جريدة «الأخبار» تعقيبات مطولة تحت مانشيت عريض يقول «ثورة النساء على الشيخ الغزالى». وبدأت الصحيفة تعليقها ب«الجنس اللطيف فى المؤتمر الوطنى ثائر على الشيخ الغزالى، البعض يعتبره (نكتة) مقصودا بها الترويح عن الأعضاء، والبعض يقول إنه يريد الشهرة، ولهذا لم يجد ما يرتفع فوقه سوى فساتين النساء، والبعض يدهش، ما علاقة الميثاق بفساتين النساء، وبعض النساء ثائرات، كيف يشبه الغزالى النساء بالمعيز، وكيف يقول عن الرجال بأنهم خراف، وعضو فى المؤتمر قالت إن الشيخ الغزالى يريد أن يصرف المؤتمر من الجد إلى الهزل، ومن موضوع يتعلق بمصير شعب إلى موضوع يتعلق بفساتين السيدات»، وشاركت نساء عديدات فى الاحتجاج العارم على أقوال الشيخ الغزالى، منهن الدكتورة سهير القلماوى والدكتورة مفيدة عبد الرحمن، وشخصيات نسائية أخرى من كل فئات وطبقات المجتمع المصرى، ليدافعن عن حقوقهن المهدورة فى تفسيرات وتأويلات الشيخ الغزالى ومن لفّ لفه.