قُلنا فى المقالة السابقة ما يفيد أن فهم الرئيس أوباما لمصطلح القيادة من الخلف يختلف كثيرًا عن فهم مَن روَّجوا لهذا المفهوم، فالقيادة من الخلف تفيد التشديد على جماعية العمل، وتشجيع مبادرات المرؤوسين، مع الاحتفاظ بالقدرة على شمولية الرؤية وضمان التزام الكل بالإطار العام للعمل المشترك. وهناك طبعًا فارق شاسع بين القيادة فى الداخل والقيادة فى العلاقات الدولية، فالعلاقات بين الدول لا يحكمها تسلسل قيادى. وبصفة عامة قال أغلب مَن عمل مع الرئيس أوباما إنه حرص على تركيز سلطة اتخاذ القرار فى البيت الأبيض على حساب وزارتَى الخارجية والدفاع، وهذا يناقض فكرة جماعية العمل، وقالوا أيضًا إن منطقة الشرق الأوسط لم تكن على قائمة أولوياته إلا فى القليل النادر - أى أن القيادة كانت غائبة. لا أذكر ذلك للانتقاص من مقام الرجل، بل لبيان أن ممارساته لا تتسق مع خطابه، وهذه مشكلة مزمنة مع السياسيين بصفة عامة. ولا نزعم أننا متابعون لإدارته ملفات السياسة الخارجية الأمريكية بتفاصيلها، وأننا عالمون بما يدور فى الكواليس، ولكننا نسمع أن الشكوى عامة فى أوروبا وفى الشرق الأوسط من أدائه، فهو يجمع بين الميل إلى اتباع سياسة انعزالية والأحادية، أى أنه يتخذ القرارات دون التشاور مع الحلفاء والأطراف الأخرى، شأنه شأن سلفه الرئيس بوش الابن، ومن المعروف مثلًا أنه لم يتشاور مع الرئيس الفرنسى هولاند، قبل اتخاذ قراره بعدم ضرب سوريا فى أثناء أزمة استعمال الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، بصرف النظر عن صحة أو خطأ هذا القرار نلاحظ أن الرئيس أوباما يتحدَّث عن جماعية العمل وعن القيادة من الخلف عندما يريد أن لا يتدخل، أو يرغب فى تضييق نطاق هذا التدخل، أو عندما يقدر أن الأحسن عدم ظهور الولاياتالمتحدة فى الصورة، وأنه يتعين على حلفاء الولاياتالمتحدة القيام بالمهام المثيرة للجدل أو حتى المهام القذرة. ولكى لا نظلم الرئيس الأمريكى علينا أن نذكر من ناحية أن سلفه ورّط الولاياتالمتحدة فى مغامرة غير محسوبة ما زال الجميع (والشعب العراقى أولًا) يدفع ثمنها الباهظ إلى الآن، وأن نقر من ناحية أخرى أن خطّه السياسى يمثّل رفضًا محمودًا لفخّ التوريط، لميل الأطراف الصغيرة إلى إشعال نزاعات دموية لإجبار القوات الإقليمية والدولية على التدخُّل لفرض حل سياسى أو عسكرى، أو إلى مطالبة الولاياتالمتحدة بالاضطلاع بمهام عسكرية تصب فى صالح تلك الأطراف ولا تفيد واشنطن فى شىء، ونفهم أيضًا استياء الأمريكيين من قيام الأوروبيين (باستثناء فرنسا) بتخفيض حاد فى نفقاتهم العسكرية الضئيلة أصلًا رغم تزايد التهديدات والأخطار فى شرق وجنوب القارة وفى البحر الأبيض المتوسط، ناهيك بمشاركتهم الضعيفة فى تأمين الخليج. كل هذا مفهوم، ولكننى أزعم أنه لا يبرر انتقال واشنطن من نقيض إلى نقيض، فالسياسة الحالية قائمة على نوع من الابتزاز قد يكون فعالًا على المدى القصير (وأشك جدًّا فى هذا)، ولكنه ضار على المدى الطويل، هذه السياسة القائمة على البقاء فى المقعد الخلفى تفترض أن شركاء الولاياتالمتحدة سيقبلون الاضطلاع بالمهام المطلوبة منهم نيابة عن أمريكا لمزيج من الاعتبارات، المصالح الآنية لتلك الدول، ورغبتها فى تقوية العلاقات مع واشنطن، والتسابق فى ما بينها على إرضاء القوة العظمى الوحيدة، والخوف من غضبها ومن بأسها ومن قدرتها على الإيذاء السياسى والاقتصادى والاجتماعى، ودفعها إلى غضّ النظر عن انتهاكات جسيمة فى مجال حقوق الإنسان.. إلخ. سأحاول فى المقالة التالية بيان أضرار تلك المقاربة التى تزعم أنها سياسة على المدى القصير والمتوسط والطويل.