نتناول فى مقالة اليوم مفهوم القيادة من الخلف الذى لجأ إليه الرئيس الأمريكى ومساعدوه كثيرًا، وسنتعامل معه بقدر من الجدية، بمعنى أننا سنفترض أن هذا الكلام ليس مجرد شعار للاستهلاك الداخلى، أو ذريعة لتبنّى سياسات تتخلّى عن مسؤوليات واشنطن، أو ستار يخفى رفض الفعل والمبادرة. بعد جولة سريعة على الشبكة العنكبوتية، يتضح أن هذا المفهوم له أب، هو الرئيس الجنوب إفريقى الراحل نلسون مانديلا، الذى قارن القيادة برعاية الغنم، فالغنم يسلك الطريق الذى اختاره الراعى دون أن يدرك هذا، وله أبعاد عديدة، ومعانٍ كثيرة، فهو يحمل فى طياته جماعية القيادة، والتمييز بينها وبين الجعجعة والتصدُّر للكلام، وفكرة حثّ الآخرين على القيام بمهمة يراها القائد ضرورية ولا يرغب فى التورُّط فيها شخصيًّا، والقائد من الخلف يرى نفسه مرشدًا وخادمًا لفريقه، مشجعًا لكل المبادرات، مع الاحتفاظ بالقدرة على الرؤية الشاملة وعلى رسم الاستراتيجيات. وأخيرًا وليس آخر، القيادة من الخلف تمكّن أعضاء الفريق من بذل أقصى جهد ومن التعوُّد على عدم انتظار الأوامر. لا يمكن تخيُّل مثال أوضح للتدليل على خطورة الاستعانة بمفاهيم تصلح لإدارة شركة خاصة أو لقيادة النظام الداخلى للدولة، لتطبيقها على قواعد السلوك فى النظام الدولى، فهذا المفهوم يفترض وجود تسلسل قيادى ومصلحة مشتركة لكل أعضاء الفريق، وموافقة الكل على العمل الجماعى وعلى بعض أهدافه، فهل يتوافر هذا فى النظام الدولى؟ لن نتوقَّف كثيرًا عند شرط التسلسل القيادى، الأصل القانونى أن الدول تتساوى فى الحقوق والواجبات، ولكن حقائق علاقات القوة ترسم صورة مختلفة، ولا يوجد حاليًّا مَن يستطيع أن ينازع التفوُّق والهيمنة الأمريكية، الولاياتالمتحدة تجمع فى يديها القوة العسكرية ومختلف أشكال القوة الناعمة. ولكن القوة شىء والسلطة شىء آخر، هل تستطيع الولاياتالمتحدة إجبار دولة أخرى على انتهاج سلوك ما؟ علمًا برفض أوباما المحمود للخيار العسكرى. الرد طبعًا يختلف من حالة إلى أخرى، على حسب قدرة واشنطن على معاقبة مَن ترفض سلوكه، وحاجة كلا الخصمَين إلى الآخر، وتبعات هذا العقاب على الأطراف الأخرى.. إلخ. وقضية وجود مصالح مشتركة تستحق معالجة تثير عددًا من النقاط، لا أحد يجادل فى وجود كم هائل من المصالح المشتركة بين الولاياتالمتحدة ودول أخرى، ولكننا نريد أن نشير فى هذا السياق إلى تطوُّر فى الفكر الاستراتيجى الأمريكى الإمبراطورى، الولاياتالمتحدة تسيطر كاملًا على الفضاء وعلى السماوات وعلى البحار وعلى طرق المواصلات البحرية، ولها هيمنة كبيرة على الفضاء الإلكترونى، وتمتلك أسلحة الدمار السريع والشامل، وبالتالى فإن حاجتها إلى الوجود فى البر وفى نشر قوات على الأرض قلَّت نسبيًّا، لم تختفِ ولكنها قلَّت، فعلى سبيل المثال تحارب أمريكا الإرهابيين بالدرونات (الطائرات بدون طيار) وبالقوات الخاصة. وبمعنى آخر تستطيع أن تدّعى الولاياتالمتحدة أن حلفاءها يحتاجون إلى الوجود على الأرض وإلى خيار اللجوء إلى القوات البرية أكثر منها، وبالتالى فإنه من العدل أن يتحمَّلوا هم هذا النصيب من المسؤولية، وبصرف النظر عن صحة ودقة هذا الزعم، فإن إحدى نتائجه هى تخلّى الولاياتالمتحدة عن القيادة الفعلية، مع الاحتفاظ بنفوذ كبير راجع إلى قدرتها على إمداد المحاربين بالسلاح والتدريب والمعلومات. القيادة من الخلف تعنى عند الرئيس أوباما ترك الآخرين يضطلعون بالمهمة المطلوبة، حتى لا تظهر واشنطن فى الصورة (ليبيا نموذجًا) مع تقديم عون دبلوماسى ومساعدات عسكرية واستخباراتية، وقد نعنى أيضًا الدعوة إلى قمة لبناء تحالف وتحديد مهام الجميع مع تفادى إرسال قوات برية أمريكية، مع احتفاظ واشنطن بالقيادة السياسية والاستراتيجية. وللحديث بقية.