قلت فى الأسبوع الماضى إن المعركة التى شنها إسلام بحيرى على الفكر السلفى المتعصب والغريب بحق عن «حقيقة الإسلام السمحة» هى معركة مصر المستقبل قبل أى شىء آخر، وإنها معركة طال تأجيلها منذ أن بدأ الفكر الوهابى المنغلق والمتشدد فى الزحف بخرافاته على العقل المصرى منذ سبعينيات القرن الماضى، والعمل الدؤوب على إسدال حجابه على رؤوس النساء وعقول الرجال على السواء. وأهم من هذا كله الإجهاز على كثير من القيم والمنجزات التى حققتها مسيرة التنوير المصرية منذ رفاعة الطهطاوى وحتى استقدام السادات هذا الفكر ومن يروجون له من الإسلامجية. وقد استخدم السادات هذا الفكر وشجعه من أجل تنويم العقل، لكى يتخلص مما كان يواجهه من نقد وطنى من التيارات العلمانية واليسارية لسياساته التى جرّت مصر إلى حضيض الهوان والتبعية. وكان السادات واعيا بضرورة تغييب العقل النقدى، حتى تسهل فى غيبته عملية العصف بمصر والتفريط فى حقوقها الوطنية وسيادتها على أراضيها فى سيناء خاصة، ولمرارة المفارقة بعدما دفع أبناؤها الدم الغالى من أجل تحريرها. لكن هذا الفكر السلفى الوهابى المتخلف استخدم تلك الفرصة التى وفرها له السادات بأكثر من استخدام السادات له، فقد كانت له ثاراته مع مصر منذ عصف جيشها الباسل بقيادة إبراهيم باشا به ودمر عاصمته فى الدرعية عام 1818. ومن يعود إلى صحائف تاريخ تلك الفترة سيكتشف أن ما تفعله «داعش» فى المناطق التى تستولى عليها من قتل وتدمير وسبى للنساء ليس إلا نسخة مخففة مما فعلته ما تسمى بالدولة السعودية/ الوهابية الأولى بالمناطق التى فتحتها فى الحجاز والعراق والخليج العربى فى العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر، والعقد الأول من القرن التاسع عشر، حتى أدبها الجيش المصرى وأجهز عليها كلية. وقد بلغت شرور التعصب الوهابى حد ثورة الحجاز نفسه عليهم، فقد تعطل مع صعودهم الدامى الحج، واستجار الخليفة العثمانى بولاته فى العراقوسوريا، فهزمهم الوهابيون ونكلوا بالعراقيين ودمروا قطاعا واسعا من جنوبه حتى وصلوا إلى مشارف الزبير على ضفاف الفرات، وهددوا بغداد نفسها، وبلغوا مشارف حلب فى سوريا، واستولوا على كثير من المناطق التى تخضع الآن لسلطة «داعش»، والتى سبق لها أن تجرعت ما تتجرعه منها الآن على يد الوهابيين ودولتهم السعودية الأولى قبل قرنين من الزمان. وقد استجار الخليفة العثمانى بوالى مصر محمد على وطلب منه المساعدة فى تأمين الحج، لكن محمد على أجل الاستجابة لطلب الخليفة، حتى يرسخ حكمه فى مصر ويبنى جيشها، وما إن تم له ذلك حتى كانت الحملة المصرية لتأديب الوهابيين، واستئصال شأفة الدولة السعودية الأولى بالكامل، والتى استغرقت ما يقرب من ست سنوات انتهت بتدمير عاصمتهم الدرعية، وتطهير الجزيرة العربية كلية من نفوذهم واستسلام عبد الله بن سعود له، فبعث به أسيرا إلى الباب العالى فى الأستانة، حيث لقى هناك مصيره المحتوم، وهو الإعدام. وقد ظل ثأر الوهابيين من مصر حيا فى ذاكرتهم، وظلت كراهية إبراهيم باشا دافعا لهم للانتقام من مصر، لم ينسه كثير منهم قط، خصوصا وقد تصاعد عداؤهم كمؤسسة لمصر فى عصر جمال عبد الناصر، وهو العداء الذى بلغ ذروته فى حرب اليمن. ولأن هذا الفكر المتشدد، كما اكتشفنا فى سنة حكم الإخوان التعيسة، فكر معادٍ للوطنية والعقل معا، فقد سعى لتحقيق هيمنته على مصر، بشكل دؤوب ومنظم، وأسدل الحجاب على رؤوس النساء وعلى عقول الرجال معا. وليس غريبا، كما ذكّرت القراء فى الأسبوع الماضى، أن يكون الرجل الذى قاد حملة إسدال الحجاب على رؤوس النساء ومثلهن العليا من الممثلات، وعلى عقول الرجال من ورائهم، محمد متولى الشعراوى، هو نفسه من صلى لله شكرا حينما هزمت مصر عام 1967 باعترافه الصريح نفسه. وهو عمل يؤكد أنه شخص لا وطنية له، ولا يحب مصر ويصلى لله شماتة فى هزيمتها، وتشفيا فيها كتشفى الوهابيين الذين لم ينسوا ثاراتهم معها. وها هى أصوات كثيرة ترتفع فى وجه إسلام بحيرى وإبراهيم عيسى تريد تحويل هذا الشعراوى المعادى لمصر إلى أيقونة مقدسة أخرى، كالبخارى وابن تيمية، لا يُسمح بنقدها، ناهيك عن مهاجمتها. وكما استخدم هذا الفكر السادات فى نشر مشروعه، وتمكينه من أجهزة الإعلام، وفى مقدمتها أجهزة إعلام الدولة نفسها؛ استخدم أيضا فشل عصر مبارك فى تقديم الحد الأدنى من الخدمات التى يحتاج إليها المواطنين فى التعليم والصحة وتوفير الحد الأدنى من الدخل الذى يوفر لهم حياة كريمة. فلم يكتف بسلسلة متاجر ملابس المحجبات المدعومة، بل قدم معها خدماته الموازية فى التعليم والصحة. فأنشأ فصولا سقيمة لتقوية التلاميذ غير القادرين على دفع تكاليف الدروس الخصوصية الباهظة، تقدم لهم بعض التقوية، ولكنها تبث فيهم سموم الفكر المتعصب باسم المتاجرة بالدين. كما أسس مراكز علاج موازية توفر للفقراء فتات ما كان على نظام مبارك أن يوفره لهم، وتشفع ذلك أيضا بفكرها الذى يعمد إلى تنويم العقل، وتشويه الوجدان الوطنى معا. وبموازاة هذا كله عمد هذا الفكر إلى تأسيس جهاز إعلامه الموازى المتمثل فى آلاف الزوايا والمساجد المبثوثة فى كل شبر من الأرض المصرية. وكان هذا كله يحدث وعلى مدى ما يقرب من أربعة عقود، فى غيبة أى دور للأزهر أو اعتراض منه ضد انفلات الأمر من يده، وسيطرة الفكر السلفى والمتعصب على مساجد مصر. فلم نسمع بقضية واحدة رفعها الأزهر ضد من استولوا على مساجد الدولة والأوقاف من «الإسلامجية» وسخروها لعملهم السياسى المذموم. وبالإضافة إلى تلك الخدمات الموازية، تسلل هذا الفكر الخبيث إلى خدمات الدولة الأساسية فى التعليم خاصة، وسرّب سمومه الفكرية وتعصبه إلى مناهج التعليم وإلى ممارسات اليوم المدرسى التقليدى، الذى لم يعد يبدأ بتحية العلم وتجذير الوطنية فى وجدان النشء، وإنما باستخدام هذا الفكر الشائه للدين لطمس أى وطنية، ومن خلال التعليم والوعظ خصوصا تخلقت معامل تفريخ أنصاره ومريديه، وأصبح له السيطرة على الشارع المصرى خصوصا فى المناطق الفقيرة التى تنتشر فى عشوائيات المدن المصرية، وتشمل معظم سكان الريف. أى أنه تفشى بين أكثر من ثلثى الشعب المصري، وشكل عقولهم بصورة جعلت هذه الأغلبية العظمى حاضنة طبيعية لهذا الفكر المجرد من أى وطنية. فهل نتساءل بعد هذه المسيرة الطويلة عن سر ما يهدد حاضرنا ومستقبلنا من إرهاب؟