«الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة» وكذلك الطريق إلى الانهيار الاقتصادى أحيانًا يكون مفروشا بالمؤشرات الجيدة.. هذا لا يعنى أن النوايا الطيبة لا تؤدّى إلى الجنة، أو أن التنمية لا تحتاج إلى معدلات نمو عالية.. فالنمو وإن كان الشرط الأساسى للإصلاح الاقتصادى فإنه وحده لا يكفى، بل ربما يؤدّى إلى نتائج عكسية. نجاح المؤتمر الاقتصادى، وإن كان حدثًا عظيمًا، لا يجب أن يشغلنا عن بناء مؤسسات حقيقية تستطيع تحويل هذا الدعم المنشود إلى واقع اقتصادى ومعيشى أفضل، ولذلك فإن أمامنا اختيارين، وعلينا أن ننحاز إلى أحد منهما. أما الاختيار الأول فهو الانشغال بصرف المعونات لحل الأزمات اليومية التى تلاحقنا، مثل أزمة الطاقة والمواصلات والدعم، وما إلى ذلك من مشكلات تهب رياحها من كل جهة، فتكون النتيجة التلقائية هى التحول إلى دولة ساعية إلى معونات تذهب جفاء، فدون وعى كافٍ لكيفية توجيه تلك الأموال التى نتطلع إليها سنجد جهدنا مجرد نحت على الماء، فلا توجد تجربة دولية أفادت أنه بالمنح والمساعدات تنمو الأمم، فما حصلت عليه بلدان مثل اليونان أو فلسطين أو العراق من أموال وإعانات طائلة لم تزد الطين إلا بلة، وما حدث فى مصر فى الماضى القريب كان درسًا كافيًا لمعرفة أن الفساد هو النهاية المأساوية للاعتماد على المنح والمساعدات دون بنية مؤسسية سليمة. أما الاختيار الثانى -وهو ما نرجوه- فهو وضع المنح والمساعدات فى مكانها الطبيعى، ألا وهو لعب دور المسكنات فقط، والعمل بالتوازى على بناء المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى تساعد على استدامة التنمية. وقد قامت الحكومة فى الفترة الأخيرة بجهد طيب، مثل تعديل قانون الخدمة المدنية (رغم ما عليه من تحفظات)، وتعديل قانون الاستثمار، وما إلى ذلك من إصلاحات لكنها ليست كافية. البداية -فى هذا الصدد- يجب أن تكون فى كيفية التعامل مع المعونات القادمة، وعليه أقترح أن يتم نقل تبعية الوحدات الخاصة بتنسيق وفاعلية المعونات من إحدى الوزارات إلى هيئة تابعة لرئاسة الوزراء مباشرة، وأن يكون لدى تلك الوحدات استقلالية نسبية عن الجهاز التنفيذى للدولة، من خلال تشكيل مجلس إدارة يضم خبراء مستقلين وممثلين لبعض اللجان البرلمانية المعنية، بجانب ممثلين الحكومة، وأن يرأس مجلس الإدارة فريق عمل من التكنوقراط متخصصين فى هذا الملف، وأن تكون مدة عمل تلك الهيئة لفترة محددة تسعى خلالها إلى التأكد أن المعونات لا تضر عملية الإصلاح الاقتصادى والتنمية، وأنها تعبر عن احتياج محلى حقيقى، وأنه لا يوجد تكرار وإعادة لمشاريع قد فشلت من قبل. ومن ضمن ما يجب أن تتضمنه مهام الهيئة هو العمل على المستوى المحلى، لتكون رقيبًا على المشاريع التنموية من حيث التقييم وقياس الأثر. ولا يجب أن تختص تلك الهيئة بالمبادرات التنموية الفردية أو مشاريع المجتمع المدنى والقطاع الخاص، فهى مسؤولة فقط على المعونات التى تحصل عليها الهيئات الحكومية. تجربتنا مع إدارة المعونات فى السنوات السابقة لم تكن مبشرة على الإطلاق، بل أسهمت فى تفاقم الأزمة وتبخر المليارات، لتسقط أمطارًا على القلة الحاكمة سياسيًّا واقتصاديًّا، ولذلك علينا توخّى الحظر وتغيير البدايات حتى تأتى النهاية مختلفة.