نواصل محاولتنا لتحليل تصورات الرئيس أوباما للخطوط العريضة لسياساته الخارجية، وقلنا إنه يرى أن سياسته مزيج من الواقعية ومن المثالية، وأن الفوضى هى التهديد الرئيسى للأمن القومى الأمريكى، وأن مصدرها الدول الفاشلة والإرهاب، وأن الانسحاب من العراق وأفغانستان كان ضروريا لتوفير الموارد اللازمة لمواجهة التحديات الجديدة، لدعم الأمن المعلوماتى وتجهيز قوات انتشار سريع تقوم بمهام قتالية وإنسانية. وأشرنا إلى وجود تحفظ فى التعامل مع أنظمة يصفها بالاستبدادية. ويرفض الرئيس الغمز واللمز حول افتقاره إلى رؤية استراتيجية شرق أوسطية، والمقارنة بالرئيسين كلينتون وبوش، فوفقا لبعض الآراء تمحورت استراتيجية كلينتون حول ضرورة ردع كل من العراقوإيران، وحاولت أيضا التوصل إلى حل للنزاع العربى الإسرائيلى، رغم إصرار نتنياهو على إفساد عملية السلام، وبنى الرئيس بوش الابن استراتيجيته على مشروع الشرق الأوسط الكبير، وعلى القضاء على الأنظمة المناوئة للولايات المتحدة، وعلى تشجيع التحول الديمقراطى، ولم يحاول حل القضية الفلسطينية، وننبه أيضا إلى تحول مهم فى ممارسات الرئيس بوش الابن، الذى تعلم من أخطائه ومن أدائه الكارثى فى أول فترة رئاسية، وأصبح أكثر حرصا وحصافة فى فترته الثانية، وإن أخفى ذلك تحت ستار من الجعجعة ومن الخطاب المتطرف. ويبنى الرئيس أوباما دفاعه على مقولتين، ويقول إنه وصل إلى البيت الأبيض بمجموعة من القناعات والأهداف الواضحة، ضرورة الانسحاب من العراق وإنهاء الوجود العسكرى المكلف جدا، وضرورة منع إيران من الحصول على سلاح نووى، وضرورة التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية، وتكثيف المساعدات الاقتصادية للمنطقة، لا سيما للدول الفقيرة التى تواجه تحدى التنمية فى ظل زيادة سكانية مريعة، وضرورة مواصلة الضغوط على المنظمات الإرهابية العابرة للحدود. وبصفة عامة كان الرئيس الجديد يسعى لتحسين العلاقات مع العالم الإسلامى، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى يقول الرئيس إنه واجه واقعا جديدا مع اندلاع الربيع العربى وثوراته، لم يتنبأ بها أحد فى واشنطن (على حد قوله)، واقعا بالغ التعقيد والصعوبة لا يمكن فك شفراته بسهولة، واقعا يمثل تحديا جديدا وجسيما لم يواجه سلفه مثيله، ويزعم أنه نجح فى إدارة الأزمات بطريقة تحفظ المصالح والأرواح الأمريكية. ولنا عديد من التعليقات على تلك الإيضاحات، نترك مؤقتا السؤال المتعلق بطبيعة تلك الأهداف وهل يمكن اعتبارها استراتيجية مكتملة الأركان أم سلة من الأهداف بعضها واقعى وبعضها وهمى وبعيد المنال، ولا نريد حسم قضية وجود استراتيجية مسكوت عنها من عدمه؟ يحسب للرئيس أوباما محاولته المخلصة لإحياء عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية فى مطلع رئاسته الأولى، وأذكر جيدا التفاؤل السائد حينئذ فى دوائر السياسة الخارجية المصرية، ولكن الرئيس الأمريكى لم ينجح فى التغلب على الرفض الإسرائيلى القاطع لمحاولاته، ومن الواضح أنه فوجئ بلاءات إسرائيل رغم توقع الجميع لها، ولم يستطع التغلب عليها ومواصلة العملية، مما أثر بالسلب على مصداقيته، وبات واضحا أن تلك المحاولة النبيلة لم تسند إلى دراسات جادة. أما عن قضية الانسحاب من العراق فتحسب للرئيس أوباما معارضته الواضحة للحرب التى شنها الرئيس بوش، وتحسب له شجاعته فى اتخاذ قرار الانسحاب، لأن الميزانية الأمريكية لم تعد تحتملها، ولأن الخسائر فى الأرواح فاقت المتوقع، لكننى أعترف بأننى مستاء جدا من عدم إدراكه وجود التزام أدبى ومعنوى تجاه الشعب العراقى. الولاياتالمتحدة تشارك القيادات العراقية المتعاقبة فى المسؤولية عن قتل مئات الآلاف بل ملايين العراقيين، وارتكبت جريمة كبرى عندما حلت الجيش العراقى بجرة قلم غبية، أعلم أن بريمر قال مؤخرا إن الجيش العراقى كان قد تفكك على الأرض وأصبح فلولا وتركت القيادات مواقعها، وأن قراره المشئوم لم يكن إلا إقرارا لواقع حدث، لكننى لا أقبل تلك الحجة لأسباب يطول شرحها، وأظن أن هذا الانسحاب لم يدرس جيدا، وأن العراق ما زال يدفع ثمن الغزو الأمريكى وقرارات سلطة الاحتلال ثم الهرولة إلى باب الخروج، وللحديث بقية.