من بين الحجج الرئيسية التى تُساق لتبرير التمسُّك بالنظام الانتخابى الفردى، على عكس نظام القوائم الحزبية، هو أنه النظام الذى اعتاد عليه الناخب المصرى، والأقرب إليه منذ عقود. ويتناسى أصحاب هذه الحجّة أن ما اعتاد عليه المواطن المصرى فعلًا على مدى الستين عامًا الماضية هو أنه لم تكن توجد انتخابات أو أحزاب من الأساس، وأن صوته لا قيمة له، لأن هناك رئيسًا، رئيسًا فقط وليس حكومة أو حزبًا، يعرف كل شىء، وقراراته دائمًا صائبة. واعتدنا أيضًا كمواطنين أن يكون دور المؤسسات المنتخبة، إن وجدت فى أعقاب انتخابات مزورة وصورية برعاية الأجهزة الأمنية القمعية، دعم توجهات السيد الرئيس والتوحُّد والاصطفاف خلف سياساته، لأنه يعرف ما لا نعرف ويرى ما لا نرى. هكذا كانت الحال مع الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات، ومبارك الذى حقَّق رقمًا قياسيًّا ببقائه فى الحكم منفردًا ثلاثة عقود كاملة. هذا ما اعتدنا عليه ووجدنا عليه آباءنا، ولكنه أيضًا ما كنا نطمح لتغييره بشكل جذرى بعد ثورة 25 يناير 2011، وأن لا نفعل ما ارتكبه الآباء من أخطاء فادحة. لم نكن نطمح فقط للتخلُّص من مبارك ومشروعه للتوريث، بل التخلُّص من القواعد التى تأسَّس عليها نظامه، وعلى رأسها تأليه الرئيس، وبقاؤه فى منصبه مدى الحياة، وعدم خضوعه لأى محاسبة أو مراقبة من جهات منتخبة فى انتخابات حرَّة ونزيهة من قبل الشعب. كنا نطمح إلى تغيير الثقافة السائدة التى رسَّخها نظام ما بعد يوليو 1952، من أن فكرة التعددية الحزبية أساسًا ضارة بمصالح البلاد، لأن المطلوب أن يتوحَّد الجميع خلف قائد واحد وأهداف واحدة. وعندما تم رفع القيود مؤقتًا عن إنشاء الأحزاب فى أعقاب ثورة يناير، وتخلَّصنا أخيرًا من لجنة لشؤون الأحزاب كان يرأسها الأمين العام لحزب/ عصابة الرئيس المخلوع، ونادرًا ما منحت ترخيصًا بإنشاء حزب، أكد الشعب المصرى أنه لا يختلف تمامًا عن كل شعوب العالم التى تطمح إلى الديمقراطية، وأقبل على الانضمام إلى العديد من الأحزاب الجديدة التى نشأت فى جوٍّ من الحرية. وفى أول انتخابات جرت بعد ثورة يناير لم يخرج الشعب فى مظاهرات كاسحة يعترض فيها على نظام الانتخاب وفقًا لنظام القوائم الحزبية النسبية على ثُلثى المقاعد، والثُلث بالنظام الفردى، وذلك لأن التوجُّه العام كان بالفعل دعم الأحزاب والتجربة التعددية. سيقول البعض هنا إن تلك التجربة فى نهاية 2011 أنتجت برلمانًا غالبيته من أعضاء جماعة الإخوان وحزب النور السلفى، ولكن هؤلاء يتجاهلون أن الواقع الذى كان قائمًا بعد يناير مباشرة، وآثار تجميد مبارك الكامل للحياة السياسية فى مصر على مدى ثلاثين سنة، وإضعاف الأحزاب المدنية، وكذلك تجربة العام المرير فى ظل حكم الإخوان، وما نمر به من عنف وإرهاب بجانب القيود القوية المفروضة على الأنشطة المالية لهذه الجماعات الآن، كلها عوامل لن تؤدّى إلى تكرار نفس النتائج بكل تأكيد. فى عصر عبد الناصر، كانوا يقولون إن حالة الحرب القائمة ضد إسرائيل توجب أن يتوحَّد الجميع خلف القائد، وأن التعددية الحزبية تضر بالأمن القومى. الآن، وبعد ثورتَى 25 يناير وموجتها الثانية فى 30 يونيو، نخوض حربًا ضد الإرهاب، وعادت نغمة أن تعدُّد الأحزاب مضر بالأمن القومى، وأنها ضعيفة ولا تأثير لها وتسعى فقط للمصالح الشخصية لقادتها. ننسى أن الأحزاب لا تهبط فجأة على الأرض، وأنها تحتاج إلى أجواء وقوانين تدعم نموّها، وثقافة تشجّع التعددية، لا إلى إعلام يتساءل عن ضرورة وجودها من الأساس، أو حتى ضرورة وجود برلمان. لدينا الرئيس، وهذا يكفى.