السيد إدريس جالا هو وزير العمليات فى مكتب رئيس وزراء ماليزيا، التقيته فى العاصمة الماليزية كوالالمبور فى أثناء بحثى فى أسباب نجاح تجربتهم التنموية، وقبل أن أحكى لكم ما قاله هذا الرجل خفيف الظل حاد الذهن، دعونى أولًا أحكى لكم عن تلك التجربة: لسفارة مصر فى ماليزيا ملحق يسمى مكتب التمثيل التجارى، كتب منذ سنوات تقريرًا عن الاقتصاد الماليزى، قرأت فيه بالصدفة أرقامًا مثيرة للدهشة، تعرفون أن د.مهاتير محمد أو محاضر محمد رئيس الوزراء الماليزى الشهير، تسلم السلطة فى بلاده عام 1981 نفس عام تسلُّم حسنى مبارك زمام مصر فعلًا قدّر الله وما شاء فعل! ، يقول التقرير إن ماليزيا عام 1981 كان كل دخلها من تصدير ثمر جوز الهند والمطاط الخام أقل من خمسة ملايين دولار، وبحلول عام 2003 حين ترك مهاتير محمد السلطة باختياره كانت صادرات ماليزيا من الإلكترونيات تزيد على 180 مليار دولار! كان هذان الرقمان كفيلَين بدفعى دفعًا إلى التفكير فى ماليزيا ليل نهار! خصوصًا أن ثمة أرقامًا أخرى قد تحصلت عليها من البنك الدولى، منها مثلًا أن نسبة الفقراء تحت خط الفقر فى ماليزيا كانت عام 81 تتخطَّى 47 فى المئة من السكان، وأصبحت عام 2012 أقل من اثنين فى المئة! مهاتير محمد وضع رؤية للتنمية حتى عام 2020، اختار نقطتين هامتين للانطلاق: التعليم والتصنيع، بهدف تغيير حالة شعبه المزرية وقتها! ، كان معظم المالاى سكان ماليزيا الفقراء فلاحين وأميين، حكى لى مثقفون ماليزيون كيف أن القرويين قاوموا مهاتير محمد حين حاول إقناعهم فى بداية حكمه بالتخلِّى عن الزراعة والتوجُّه نحو التصنيع! كان يزور أنحاء الريف ليقنعهم بأن الأقلية الثرية فى ماليزيا ذات الأصول الصينية تتحكَّم فى الاقتصاد، لأنها تستأثر بالصناعة والتعليم، فى إحدى خطبه الأولى قبل زيارته إلى اليابان طلبًا للعون فى تأسيس نظامٍ تعليمى جديد، قال مهاتير عبارته الشهيرة: آن الأوان أن نتطلّع شرقًا ! وحين التقيت عددًا من مؤيدى مهاتير محمد وخصومه على حدٍّ سواء أجمعوا كلهم على أن التعليم والتصنيع كوَّنا معًا: باب الخروج من دوامة الفقر والذل واليأس والتبعية. مدينة بوتراجايا بدأت ماليزيا بناءها فى عهد مهاتير كعاصمة جديدة تبعد نحو ساعة من العاصمة كوالالمبور، فى تلك المدينة الحديثة الجميلة المذهلة، بُنيت مبانى الحكومة الحديثة، وفى إحداها التقيت السيد إدريس جالا فى مكتبه، كان ما قاله لافتًا حقًّا، سألته سؤالًا محددًا، عادة ما يشغلنى: تقول إن التنمية تبدأ بإيجاد حل المشكلات وأنا أسأل كيف حللتم المشكلات؟! قال ضاحكًا: إن الناس عادة يعرفون المشكلة، والمدهش أنهم قد يعرفون الحل، لكن قد تستمرين مثلًا عشر سنوات تتحدثين عن المشكلة وحلولها فى الإعلام وفى المؤتمرات، ثم لا يحدث شىء! أدركنا ذلك فقررنا تجريب منهجٍ مختلف، مثلًا مشكلة المرور، هو يعرف أننى مصرية طبعًا، نظر إلىّ وهو يقول كلمة المرور، وابتسم، لا أعرف لماذا نحن نفعل ما يلى: نضع قائمة بأسماء مَن نعرف أنهم متخصصون فى هذه المشكلة ولديهم أفكار للحل، ثم نأتى بهم إلى جناحٍ فى فندق، ولا نسمح لهم بالخروج إلى العالم الخارجى إلا بعد أن يضعوا حلًّا متكاملًا للمشكلة حتى لو اقتضى الأمر عزلهم عن أسرهم وعن العالم الخارجى بضعة أسابيع أو أشهر! سألته مندهشة بما معناه: بس؟! بس كده؟! تحبسوا المتخصصين فى غرفة إلى أن يأتوك بالحل؟! يا إلهى! ونفع؟! قال ضاحكًا: نفع إلى حد أننا اشتهرنا بتلك الطريقة عالميًّا، فكان أن اتصل فخامة السيد رئيس تنزانيا بالسيد رئيس الوزراء هنا، ليطلب منه إرسال مَن يطبق تلك الطريقة فى بلاده لحل بعض المشكلات المستعصية، وكان لى الشرف أن أرسلنى رئيس الوزراء إلى تنزانيا لتقديم العون، وفعلًا قضيت هناك ستة أشهر، وكل ما فعلته أننى جمعت المتخصصين فى تنزانيا، فهم أدرى بمشكلاتهم وعزلتهم فى فندق حتى يأتونى بحلول عملية يبدأ تنفيذها بمجرد خروجهم من الغرفة! وقد كان! ثم عدت إلى بلادى ! طبعًا الدهشة كانت فى وجهى منذ بدء الجلسة، نظر إلىّ مجددًا وضحك ثم حكى لى كيف أنه مهتم بمصر إلى درجة أنه حزين بسبب عدم استغلال مصر لثروتها السياحية، قال مستغربًا: كيف يكون فى مصر هذه الثروة الهائلة من الآثار وتظل فقيرة ؟! قلت له: هه؟! ما علينا يا معالى الوزير شكرًا على النصيحة، سأعود بدورى إلى بلادى وأنصح الحكومة أن تلمّهم كلهم وتحبسهم ! إنها نصيحة إدريس جالا، أنقلها إلى الرئيس عبد الفتاح السيسى: احبسهم يا ريِّس، ليس فى طرة، إنما فى فندق القوات المسلحة! اجمع المتخصصين وأساتذة الجامعة والباحثين، وأغلق عليهم أبواب الفندق، وقل لهم قسمًا عظمًا ما انتوا شايفين الشارع إلا إذا خرجتم من محبسكم بحل لمشكلاتنا المستعصية! وإذا لم يفلحوا يا ريّس توكل على الله واحذُ حذوَ رئيس تنزانيا: استدعِ إدريس جالا!