كتب - علاء عزمي: لا يمكن فصل الضربة الجوية المصرية المركزة لعدد من أوكار داعش فى ليبيا، ردًّا على ذبح التنظيم الإرهابى 21 مصريًّا من أقباط المنيا، على هذا النحو الصادم، وبغض النظر عن تأخُّر تلك الخطوة من عدمها، وعما إذا كانت كافية أم لا، لدحض التهديد المتصاعد فى الجوار الغربى، عن الاستراتيجية الراسخة للأمن القومى المصرى، فى العصر الحديث، والمرتكزة على مواجهة الأخطار والتحديات، ذات الطابع العسكرى، خارج الحدود، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وبينما لا يعرف كثيرون أن الدولة المصرية الحديثة، ومنذ أن تأسس لها جيش نظامى حقيقى على يد محمد علِى، بدايات القرن التاسع عشر، قد سارت على نهج الأوَّلين فى مصر القديمة/ الفرعونية على وجه الدقة، فى توسيع مفهوم أمنها القومى، بكل ما قد يستتبع ذلك من تحرك خارجى محسوب ، إلى حد كبير، فإن تقدير مردود التعامل العسكرى بعيدًا عن الديار ظل محل تباين، وعرضة لأحكام إيجابية وسلبية على نتائجه. ليبيا.. كلاكيت تاني مرة القصف الجوى لمعاقل داعش لم يكن، وللمفارقة، هو التحرُّك المصرى العسكرى الأول فى ليبيا.. الرئيس الراحل أنور السادات كان قد اضطر إلى اتخاذ قرار جرىء بالقيام بعملية خاطفة فى أراضى الجماهيرية فى السبعينيات، عرفت فى الأدبيات العسكرية ب حرب الأيام الأربعة . كانت شرارة المناوشات بين القاهرة وطرابلس قد اشتعلت فى 20 يونيو 1977، على خلفية ما عرف ب مسيرة نحو القاهرة ، وقوامها كان آلاف المتظاهرين الليبيين ممن احتشدوا على الحدود المصرية، وذلك بإيعاز من حكومتهم، اعتراضًا على مفاوضات واتصالات السلام بين مصر وإسرائيل. وبينما تدخَّلت قوات حرس الحدود المصرية، لمنع المسيرة الليبية من اختراق الحدود، بشكل سلمى، فاجأت وحدات مدفعية ليبية الجميع، بإطلاق قذائفها على مدينة السلوم دون سابق إنذار. جنّ جنون القاهرة آنذاك، ومن ثَمَّ ردَّت القوات الجوية المصرية بأمر السادات، بمهاجمة قواعد عسكرية فى شرق ليبيا، بأسراب من طائرات سوخوى إس يو- 20 و ميج 21 ، فدمَّرت طائرات وقواعد جوية ليبية جنوب طبرق، ومواقع عسكرية فى واحة الكُفرة، ثم هُوجمت قاعدة العدم الجوية، قبل أن تدور معركة طيران عنيفة بين الجانبين. غير أن وساطة من جانب الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، فضلًا عن الرئيس الجزائرى هوارى بومدين، أوقفت القتال نهائيًّا يوم 25 يوليو من نفس العام، بعد أن خلف إصابات وقتلى فى الجانب المصرى، بلغت 100، بينما وصل العدد إلى 400 فى الجانب الليبى، فى حين خفَّف تبادل الأسرى الذى جرى فى أغسطس 1977 من تأزُّم الموقف، إلى حد كبير. طائرات السوخوى و الميج دمَّرت طائرات وقواعد جوية ليبية بطبرق ومواقع عسكرية فى واحة الكُفرة والعدم محمد علِى باشا أول مَن سمح بخوض مصر معاركها بعيدًا عن أراضيها السادات خاض حرب الأيام الأربعة ضد القذافى فى السبعينيات.. ووساطة بومدين وعرفات أنهت الأزمة محمد علي.. باب المندب ولعل التدخُّل العسكرى فى الحرب اليمنية، بين عامَى 1962 و1967، هو الأبرز مصريًّا فى ملف الخروج لحماية الأمن القومى بعيدًا عن الحدود. الدوافع القومية بالأساس لذلك الحدث، عالى التكلفة، لم تكن تبتعد كثيرًا عن إصرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على دعم حركات التحرر العربى والإقليمى، عبر مساندة الثوار الجمهوريين فى بلاد حضرموت، ناهيك بالحساسية المصرية الشديدة، تجاه عدم فرض كلمتها فى منطقة تشرف على باب المندب، بوابتها الجنوبية لقناة السويس، ولا يخلو الأمر أيضًا من أن منافسة الزعامة بين القاهرة والرياض فى ذلك الوقت كانت أحد أسباب الدفع بالقوات المسلحة المصرية فى معارك عنيفة، فى حرب اتخذت من شكل مواجهات العصابات مع القبائل، علامة مميزة لها. وعلى عكس كثيرين يعدد الباحث محمد شوقى السيد، فى دراسة بعنوان ناصر واليمن ، ميزات التدخل العسكرى فى اليمن، وذلك فى تحقيق وحدة شمال وجنوب اليمن، والاعتراف وتأكيد دور مصر القيادى على المستويين الإقليمى والعربى وتقويته دوليًّا، وإجلاء القوات البريطانية عن عدن، وطرد أكبر قاعدة عسكرية إنجليزية خارج بريطانيا بعد قاعدة قناة السويس وتصفيتها، فضلًا عن السيطرة على مضيق باب المندب، لفرض الحصار البحرى والاقتصادى على إسرائيل فى حرب 1973، إلى جانب اكتساب القوات المسلحة المصرية، خبرات حروب الاستنزاف وعمليات الجبال والمنحدرات، وإثبات قدرتها على العمل بنجاح فى مسرح العمليات، بعيدًا عن أراضيها وفى طبيعة أرض ومناخ مختلفة تمامًا عن المسرح المصرى، مما ساعد القوات المسلحة فى انتفاضتها عقب نكسة 67 . حرب اليمن.. و نكسة 67 لم يسلم عبد الناصر من انتقادات لا أول ولا آخر لها، بشأن تورُّط الجيش فى حرب اليمن، وتبارت الأقلام بأن الزعيم الراحل بدَّد احتياطى مصر من الذهب هناك، فى تلك الحرب، وخرب الاقتصاد المصرى، وضحَّى بأرواح عشرات الألوف من الشباب المصرى على سفوح الجبال، وأن وجود جزء من الجيش فى اليمن 50 ألف مقاتل ، كان هو السبب الرئيسى فى كارثة يونيو 1967. إلا أن الباحث جمال بدر الدولة، يرد على ذلك بالإشارة إلى أن الذهب الذى تم توزيعه على قبائل اليمن من أموال الملك السعودى المخلوع سعود بن عبد العزيز، الذى أزاحه أخوه الملك فيصل بن عبد العزيز عن العرش عام 1964، وعاش لاجئًا فى مصر، وكان يريد استرداد عرشه عبر محاربة أخيه فى اليمن، وكان هو الذى اقترح على الرئيس عبد الناصر فكرة رشوة رؤساء القبائل اليمنية بالذهب، وحوّل جزءًا من أمواله إلى عملات ذهبية وسافر بنفسه مع وفد مصرى إلى اليمن لمقابلة زعماء القبائل هناك، ولمن يريد الاستزادة عن خرافة تبديد احتياطى مصر من الذهب أن يعود إلى دراسة المرحوم الدكتور علِى نجم، رئيس البنك المركزى المصرى السابق، والتى فنَّد فيها بالأدلة والوثائق تلك الخرافة. وبخصوص تخريب الاقتصاد المصرى بسبب اشتراك مصر فى حرب اليمن فى الفترة من 1962-1967، يرى بدر الدولة أن الأرقام تخبرنا بأن مصر حققت نسبة نمو من عام 1957 إلى 1967، بلغت ما يقرب من 7% سنويًّا، حسب تقرير للبنك الدولى، بما يعنى أن مصر استطاعت فى عشر سنوات من عصر عبد الناصر أن تقوم بتنمية تماثل أربعة أضعاف ما استطاعت تحقيقه فى الأربعين سنة السابقة على ثورة يوليو. وعن استشهاد عشرات الألوف من الشباب المصرى بسبب حرب اليمن، يقول الفريق محمد فوزى فى كتابه حرب الثلاث سنوات ، إن عدد شهداء مصر فى اليمن بلغ خمسة آلاف شهيد ضحوا بأرواحهم من أجل تحرير إخوانهم فى الدين والعروبة، وأن الضباط والجنود كانوا يتسابقون على طلب الاشتراك فى تلك الحرب، بسبب ما يعود عليهم من امتيازات، وبالتالى فإن الرجل الذى كان رئيسًا للأركان فى الجيش خلال تلك الحرب، ثم وزيرًا للحربية بعد نكسة 1967، يدحض فكرة أن شهداء مصر فى اليمن عشرات الألوف كما أشيع، ناهيك بأن تحميل تلك الحرب سبب نكسة 67 ، وفق بدر الدولة، يحمل تجنيًا كبيرًا على أساس أن القوة الضاربة المصرية كلها داخل الحدود، متمثلة فى القوات الجوية والمدرعات، وقوات الدفاع الجوى، كانت كل القوات اللازمة للخطة قاهر ، علاوة على أربع لواءات مستقلة وأربع فرق مشاة، وفرقة مدرعة، وثلاث لواءات مدرعة مستقلة، مع وحدات سلاح المدفعية والهاون، وسلاح المهندسين فى مصر. الأمن القومي الشامل وتبقى العقلية العسكرية الكبيرة لمؤسس مصر الحديثة، إن جاز التعبير، محمد علِى، رائدة فى مساحة توسيع مفهوم الأمن القومى، ما جعل الدولة المصرية على مدار عقود طويلة قادرة على خوض معاركها، بعيدًا عن أراضيها. كل صراعات الباشا، كما كان يحب أن يُطلق عليه إبان حكمه، مع الدولة العثمانية، ومع القوى الأوروبية التقليدية، لم يصل الحدود المصرية على الإطلاق، ولعل حروب إبراهيم باشا ومَن جاء من بعده من سلالة محمد علِى، على وجه التحديد، كانت مثالاً على ذلك، إذ دارت أغلبها فى الشام وفى الحجاز بالجزيرة العربية، وكذلك فى القرم، وعلى مشارف الأستانة. ولا ننسى أن مصر شاركت فى حرب تحرير الكويت ومهمات حفظ السلام الدولية كما حدث فى الكونغو والبوسنة فى إطار تفهمها أهمية السلم الإقليمى والدولى فى استقرار أمنها القومى الشامل.