يكتب كثيرون عن معاناة الفقراء فى مصر وكفاحهم اليومى من أجل حياة كريمة صعبة المنال فى أغلب الأحوال، وعدم قدرتهم على الترقى الاقتصادى والاجتماعى بسبب غياب عدالة الفرص فى البلد، فتوريث الفقر هو أخطر أنواع التوريث. ولكن ماذا لو كنت غنيًّا فى مصر؟ تخيّل معى أن معك ملايين بشرط أنك لا تستطيع السفر خارج القاهرة. ستشترى بيتًا فى أحد المنتجعات فى ضواحى المدينة، وربما تشترى قصرا محصنا، ولكن لن يمنعك بزخك من التعرض للخطر ليلا بسبب غياب الأمن، أو من القلق اليومى على أولادك من الحوادث بسبب رداءة الطرق. ستقوم بشراء سيارة فارهة تتجول بها فى شوارع القاهرة، لا للاستمتاع بها، بل للحفاظ عليها من الحوادث والمطبات والحفر فى الطريق، ناهيك بحالة تأنيب الضمير التى ستنتابك حينما ترى العشرات متكدسين فى أحد أوتوبيسات النقل العام غير الآدمية. ستلحق أولادك بإحدى المدارس التى تتخطى مصاريفها السنوية دخل عشر عائلات مصرية فى السنة ولا توفر مستوى تعليم يشابه المدارس المجانية فى الدول الأوفر حظا، بل ربما توفر حفلات وأنشطة ترفيهية فقط. ستذهب للسهر ليلا فى أحد الفنادق الفاخرة على النيل لتقف فى الطريق بسبب الزحمة أكثر من ساعة تفقد فى خلالها القدرة على المتعة. ستعانى يوميا من تلوث الهواء والتلوث البصرى والسمعى دون أى قدرة لأموالك على تجنبه، اللهم إلا لو انعزلت داخل أسوار بيتك، ولكن للأسف الإنسان حيوان اجتماعى والانعزال لن يؤدى إلا إلى الاكتئاب. يعزف الأغنياء عن المشاركة فى المجال العام ومحاولة تحسين أحوال البلد، مستكفين بمشاهدة البلد الحزين أهله من خلف شاشات التلفزيون وربما السخرية من أوضاع المصريين. ليتهم يعلمون أنهم فى حقيقة الأمر هم الخاسرون، فما يحصلون عليه من خدمات تعليمية وصحية أو حتى ترفيهية لا يقارن بحجم إنفاقهم اليومى. كما أن المشكلات العامة فى مصر، وأهمها تردى مستوى الخدمات العامة وعدم كفاءة الجهاز الأمنى على النحو المطلوب، تؤثر فى حياتهم بشكل غير مباشر. هذه الخواطر ليست بكائية تدعو إلى مزيد من اليأس والإحباط أو لتصدير طاقة سلبية، ولكنها تسعى إلى لفت انتباه بعض الذين غرّتهم أموالهم وظنوا أن الهروب من الواقع خلف أسوار المستوطنات التى تحيط المدينة سوف يجنبهم وأولادهم مخاطر انهيار الدولة. فمشكلاتنا الحقيقية ليست بسبب المؤامرة الكونية المزعومة أو توحش المصريين وبالأخص الفقراء، بل نتيجة للفشل المؤسسى والإدارى والاقتصادى الذى نعانى منه. هذه الخاطرة هى دعوة مخلصة لأبناء الطبقة المنعزلة للمشاركة فى النسيج المجتمعى ومحاولة تنميته وتطويره من خلال الإصرار على الحضور فى المجال العام، فهناك أوجه عديدة للمشاركة فى حل الأزمة الراهنة من خلال الجمعيات الأهلية أو الأحزاب السياسية أو الأعمال الخيرية أو النقابات المهنية أو برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات. ولكن حتى تنجح تلك التجربة على أبناء الطبقة المنعزلة والمرفهة نسبيا مصارحة النفس وتقديم رؤية نقدية للوضع الحالى لا تتبلور حول نفاق السلطة من أجل مصالحهم الضيقة، بل عليهم ربط الصالح العام بالخاص.