حكى لى دكتور علوم سياسية، فى إحدى الجامعات الخاصة، أن نحو نصف الطلبة لم يكونوا على دراية بالحادثة الإرهابية التى وقعت فى سيناء منذ أسابيع قليلة، متحسّرا على انعزال أبناء الطبقة العليا فى مصر عن باقى المجتمع. وما يزيد الطين بلة أنهم ليسوا تافهين بالمعنى التقليدى للتفاهة، حيث إنهم على دراية واسعة بتفاصيل سياسية دولية لا تمتّ إلى مصر بصلة، ولديهم أفكار ورؤى كثيفة حول إدارة الدولة والاقتصاد والتنمية، لكنهم لا يُبالون بما يحدث فى بلدهم. لم تكن تلك أوّل حكاية من هذا النوع أسمع عنها أو أشهدها، فالطبقة العليا تنعزل تدريجيا داخل مستوطناتها، ولا ترى مصر إلا من خلف شاشة تليفزيونية يتعدّى سعرها الدخل الشهرى لعشر أُسر فقيرة، ففى المستوطنات المنتشرة على حدود القاهرة ينشغل بعض الآباء بممارسة رياضات لم يعرفوا عنها قبل انتقالهم إلى سكنهم الجديد، وتتنوّع اهتمامات بعض الأمهات ما بين البحث عن حفّاضات عالية الجودة لأطفالها، أو الترتيب لموسم الهجرة الصيفية خارج البلاد. كما يتفاخر بعض أبناء الطبقة العليا الجديدة فى مصر بعدم معرفتهم باللغة العربية، اللهمّ إلا ما تيسَّر من جُمل قليلة لقضاء حاجتهم وقت غش امتحان اللغة العربية فى المدارس الدولية، فلقد أصبحت إجادة اللغة العربية دليل إدانة على الانتماء إلى طبقة أقلّ حظا، فكم من نكات انتشرت بسبب ضعف نطق أحد الحروف باللغة الإنجليزية من بشر يستعصى عليهم قراءة مانشيت صحفى. هذه ليست محاولة للتعميم وتوجيه سيل من النقد والاتهامات لكل أبناء الطبقة العليا، لأن هناك استثناءات نهجها مختلف تماما عن هذا النهج السخيف، بل هى محاولة لتوصيف ومعالجة ورم خبيث يهدّد مستقبل مصر، فهل يخرج من بين أبناء تلك الطبقة طلعت حرب جديد الذى استطاع أن يجمع أكثر من 120 رجل صناعة لإنشاء بنك مصر لحقته سلسلة من الشركات القومية مثل «مصر للطيران ومصر للتأمين ومصانع الغزل والنسيج»؟ وهل يخرج من الظلمات نور فنرى مَن يحمل لواء التعليم مثل أحمد لطفى السيد؟ فمع الأسف الشديد فى ظل الحالة المتردية التى وصلت إليها مصر فإن الطبقة العليا هى الوحيدة القادرة على الحصول على الحد الأدنى من التعليم، وبالتالى فنحن بحاجة شديدة إلى سواعد أبنائها فى عملية التغيير والتحديث، كما أننا نعلم أن علامات هلاك الأمم تبدأ بفسوق مطرفيها قبل أن تدمّر تدميرا. هذه الخاطرة ليست دعوة إلى الزهد، فمن تحكم فى ماله فما ظلم، لكنها رسالة إلى قوم انعزلوا فى مستوطناتهم، مفادها أنه لا مفر من الواقع الأليم فى مصر، فإن لم تسهموا فى تحسينه انتشر انتشارا سريعا حتى تسلق أسواركم العالية وقضى على عزلتكم، فلا يمكننا إحسان الظن بالمستقبل، وفى نفس الوقت نغضّ بصرنا عن الفجوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء، فى ظلّ اندثار للطبقة الوسطى وانسداد شرايين الترقى الاجتماعى.