فى العام 2010، وضمن إطار فعاليات دورة ذلك العام لمهرجان «كان»، عرض جان - لوك غودار عمله الجديد فى ذلك الحين، «فيلم – اشتراكية» ليعلنه واحدا من آخر أفلامه على أية حال. ولمناسبة عرض هذا الفيلم نشرت مجلة «تيليراما» الفرنسية حوارا طويلا سجلته بين غودار ودانيال كوهين بنديت، طاول العديد من المسائل التى تعنى المخرج الطليعى من ناحية ومن الناحية الثانية النائب الأوروبى – فى ذلك الحين - الذى كان فى سنوات الستين أحد أقطاب التحركات الطلابية اليسارية فى ربيع باريس 1968. وكان الاثنان، قبل ثلاثين عاما من حوارهما الجديد، قد التقيا فى عمل سينمائى مشترك يدور من حول فيلم «ريح الشرق» لغودار. وبما أن الحديث عن فلسطين كان يشكل جزءا من مشاهد «فيلم – اشتراكية»، كان لا بد للحوار المتجدد بين الاثنين أن يطاول فلسطين. وهكذا فى لحظة من لحظات الحوار، التفت كوهين بنديت إلى غودار وقال له: «… إنك فى فيلمك تصور أيضا أن اللمسة الأصلية لأوروبا هى فلسطين. وتصوّر هذا عبر ثلاثة مشاهد وصورة شديدة القدم». فيرد غودار بهدوئه المعهود: «هى واحدة من أول الصور التى نعرفها عن فلسطين، وعنها يروى إلياس صنبر أن داغير كان قد عرض فى العام 1839 اختراعه المتعلق بالتصوير «داغيريوتيب» لدى أكاديمية العلوم، وعلى الفور تقاطرت إلى الأراضى المقدسة أسراب من المصورين لم تعرفهم أية مناطق أخرى، وربما لرغبة منهم فى رؤية ما إذا كان كلام الله صحيحا». دانيال كوهين بنديت: «على العموم، هناك أناس مهووسون باليهود إلى درجة أنه حين يقول لهم أحد، مثل شلومو ساند، إن هناك حقا فى هذا العالم يهودا، لكن الشعب اليهودى ليس فى حقيقته سوى اختراع حقوقى لا يعود إلى أبعد من سنوات الأربعين، فى القرن العشرين، يفقدون صوابهم ويرفضون هذا السجال من أساسه. وفى المقابل هناك آخرون مهووسون بالفلسطينيين. والفريقان يخبطوننا على أعصابنا، لأنهما معا يبحثان عن الضحية الأخيرة ليرموا بها فى وجوهنا. أما أنا فأقول لهم: كفى، أنا لا دخل لى فى هذا كله، فلنحاول أن نتناقش. لماذا أجد لديك أنت الآخر هذا الهوس بفلسطين؟». جان - لوك غودار: «فلسطين، بالنسبة إلىّ مثل السينما. إنها السعى إلى الاستقلال. لقد أمضيت 10 أو 15 سنة وأنا أقول للمنتج: أنت موافق على إنفاق هذا المال. إذا أعطنى إياه وأنا سأنفقه بإدارتى. هكذا كانت معركتى دائما، حتى مع جان بيار رسام، للسيطرة على الفيلم. كما كانت الحال مع أبى: أنت موافق على إعطائى هذا... إذا لا تسألنى ما الذى سوف أفعله به. ثق بى فقط. نيكولا سيدو وشركة غومون كانا يقولان لى: إذا فأنت أنفقت المال الذى أعطيناك إياه!». دانيال كوهين بنديت: «إذا اقترح عليك أحدهم أن تذهب إلى إسرائيل أو إلى فلسطين مع كاميراك الصغيرة الجديدة هل تذهب؟». غودار: «أنا لا أصور أفلامى هكذا. بعض الناس يفعلون الأمور على هذا النحو فينتجون أعمالا وثائقية، قد تكون فى بعض الأحيان هامة... أما أنا فإننى غير قادر على العمل هكذا. أنا أحاول أن أظهر أمورا على علاقة بالسلم فى الشرق الأوسط. فمثلا إن حصلت على الحق فى هذا سآخذ لقطة جميلة من فيلم لأغنيس فاردا تصور راهبين من سلك «الترابيزيست»، وأضيف إليها صوت فتاة تتلو عبارات من التلمود، وصوت فتاة أخرى ترتل آيات قرآنية... أنا لا أملك أية سلطة، لذا لا يسعنى أن أفعل أى شىء آخر». واضح هنا أن غودار بتواضعه الماكر، إنما كان يسعى فى هذا الحوار إلى تفادى الأفخاخ التى كان ينصبها له محاوره. والحقيقة أن هذا المسعى ليس جديدا على غودار، هو الذى يبدو، فى كل عمله، وكأن همه الأساس أن يتفادى الوقوع فى الأفخاخ. فغودار ومنذ أكثر وخلال الأربعين سنة الأخيرة من حياته بقى مهتما بفلسطين، ولكن ليس دون قيد أو شرط. ولئن لم يكن غودار أول سينمائى أوروبى سعى وإن على طريقته لتبنّى فلسطين وقضيتها، فإنه كان من بين السينمائيين جميعا الأكثر ارتباطا بها ومنذ وقت مبكر. وهو لئن كان قد غاب عنها لأسباب لا ينبغى التوغل فيها هنا وهى غالبا أسباب سياسية، فإنه بعد بدايات لافتة، سيلتقيها من جديد، بأشكال مدهشة فى ما لا يقل عن أربعة أفلام أساسية أخيرة حققها قبل رحيله فى العام 2022. حيث وإن لم تشكل موضوعا رئيسيا لتلك الأفلام ومن أبرزها «موسيقانا» و«فيلم – اشتركية» وأخيرا بشكل أكثر تكثيفا فيلمه الأخير «كتاب صورة»، عرفت كيف تطل عليها وذات مرة من خلال محمود درويش وكأنه رمز للقضية (فى فيلم «موسيقانا»). وإذا كانت مساهمة غودار «الفلسطينية» معروفة إلى حد كبير فى هذه الأفلام الأخيرة، قد يكون من المفيد هنا أن نتوقف عند مساهمته المبكرة حتى وإن أجهضت فى حينه كما سوف نرى – وسيعود إليها على أية حال بعد إجهاضها بسنوات قليلة -، وهى مساهمة تواكبت مع نص رائع كتبه فى تلك السنوات المبكرة عنوان «فتح» قد يكون من الضرورى قراءته اليوم على ضوء ما حدث للتجربة النضالية الفلسطينية وما انتهت إليه! مهما يكن، إذا كان حضور فلسطين فى شكل ملحوظ ومتزايد فى أفلام جان غودار، قد أثار استغراب عدد من المهتمين بالسينما فى السنوات الأخيرة ودفعهم إلى التساؤل حول خلفيات هذا الاهتمام الغودارى بقضية شائكة من هذا النوع، وفى زمن تراجع فيه الاهتمام بمثل هذه القضايا فى سينمات بعض كبار المخرجين فى العالم، فإن العارفين بسينما صاحب «بيارو المجنون» و«على آخر رمق»، لم يستغربوا الأمر. ولم يكن هذا فقط لأن غودار جعل دائما من الاهتمام بالقضايا العادلة جزءا من مساره المهنى والحياتى وضافر بينه وبين سينماه فى عدد كبير من أفلامه التى لم يتوقف عن تحقيقها منذ ما يزيد على ستين عاما، وحتى شهور قبل رحيله، بل بخاصة لأن غودار اهتم، سينمائيا، ونضاليا، بالقضية الفلسطينية منذ زمن مبكر. وتحديدا منذ أواخر ستينيات القرن العشرين وبدايات سبعيناته، حتى وإن كان قد وجد – بين الحين والآخر، وكما أخبر كوهين بندت، نفورا تجاه بعض الممارسات الفلسطينية التى لم يفهمها واعتبرها مسيئة إلى «القضية». (وعبر عنها على أية حال فى نصه «فتح» الذى أشرنا إليه. وفى هذا الإطار يجب – طبعا – إدراج حكاية الفيلم «الفلسطينى» الأول لغودار، والذى شرع فى تحقيقه فى عام 1970 وزار الأردن وأقام فيه شهورا فى سبيل إنجازه، لكنه سرعان ما وجد نفسه عاجزا عن ذلك. كان عنوان الفيلم «ثورة حتى النصر» اقتباسا من الشعار الثورى الفلسطينى الذى كان رائجا عهد ذاك. وطبعا يمكننا أن نتصور الآن أن غودار على رغم ثوريته ويساريته المعلنتين فى ذلك الحين لم يكن بعازم على أن يستخدم العنوان بمعناه الحرفى الشعائرى، بل بشكل تناقضى، بالنظر إلى أن نظرته إلى صفاء الثورة المطلوبة من حول فلسطين ومن أجلها، كانت – تلك النظرة – ترى بعين الانتقاد إلى الممارسات اليومية، فى الأردن وغيرها. بيد أن غودار سوف يقول لاحقا إن ما كان يرمى إليه من انتقاد إنما كان أشبه بانتقاد من الداخل... من أهل البيت. فهو منذ ذلك الحين، لم يكن يعتبر نفسه عدوا للثورة الفلسطينية مضخما عيوبها وبعض ممارساتها. إذا، على ضوء هذه النظرة وهذا الواقع توجه غودار فى ذلك الحين إلى الأردن، حاملا معه معداته مصطحبا فريق عمله المناضل بدوره، ومزودا بتوصيات من فلسطينيىباريس، وبمكانة لائقة أمّنت له احترام القيادات الفلسطينية التى وفرت له الدعم اللازم والمرافقة الضرورية وسط بيئة كانت تضجّ بشتى أنواع الصراعات. وفى الأردن صوّر غودار الكثير من المشاهد، ودوّن الكثير من الملاحظات والتقى كثرا من الناس، ورصد – بخاصة – بدايات ما سوف يحدث من مذابح وكوارث فى الأردن بسبب الوجود الفلسطينى وسلاحه، كما بسبب الصراعات المحتدمة بين شتى الفصائل «الفدائية»… كما أنه رصد فى شكل خاص حياة الفلسطينيين اليومية متعاطفا مع الناس العاديين وصغار المقاتلين، مع ازدياد فى نظرته الناقدة إلى القيادات والممارسات الفاسدة والمفسدة. مهما يكن من أمر، فإن غودار لم ينجز هذا الفيلم. ( فى الأسبوع المقبل: عن مصير «ثورة حتى النصر»)