على مائدة إفطارصعيدية، شهية ومتواضعة، روى الاستاذ الدكتور احمد حسن البرعى الوزير السابق فى حضور د. قس. اندريه زكى مدير عام الهيئة القبطية الانجيلية للخدمات الاجتماعية القصة التالية: فى إحدى مدارسنا الخاصة للغات والعالية المصاريف طُلٍبَ من التلاميذ كتابة موضوع معبر عن حياة أحد الفقراء. فكتب أحد التلاميذ التالي، «الفقير هو الذى يخدمه طباخ فقير ولديه فى بيته كلب بلدى ويملك سيارة نصر صغيرة»، فما كان من المدرسة إلا أن دعت اسرة التلميذ، وخيرا فعلت، ونبهتها إلى ضرورة وأهمية أن ينخرط ابناؤهافى مجتمعاتهم وألا ينعزلوا عن حقيقة مشاكلها ومشاكل مواطنيهم. قد تكون هذه الواقعة قد تكررت فى مدارس خاصة أخرى وبشكل آخر ولم تلتفت إليها المدرسة ولم تستدع عائلة التلميذ ولم يعرف الحدث ذاته. وإذا كانت المدرسة لم تسكت فعلينا نحن ألا نمر على هذه القصة دون أن نحلل مغزاها الاجتماعى العام ونختبر مدى تعبيرها عن هذا الخلل الاقتصادى والاجتماعى والمعرفى الذى تعبر عنه والذى يعشش بين طبقاتنا الاجتماعية وفى صفوفها. فالقصة تقودنا إلى عدة حقائق دامغة. المغزى الأول الذى تخرج به هو التالي: إن قضية التعليم فى مصر لا تنحصر فى رداءة وتراجع التعليم الحكومى العام «المجانى أو هكذا يقال» وعدم فاعلية مخرجاته فحسب، وإنما تمتد للمنظومة التعليمية ككل والتى لم تعد تصبح منظومة متجانسة أو متوائمة مع تاريخنا ولا مع مجتمعنا ولا مع احتياجاتنا الوطنية أو العملية بكل مكوناتها وبكل عناصرها. يعلم الجميع مشاكل التعليم الحكومى العام فى كل مراحله بدءا من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية وربما نرتفع بالحالة المتردية إلى مستوى الدراسات العليا. نعلم مشاكل التعليم الحكومى من حيث التكدس فى الفصول وانخفاض قدرات المدرس وتفاقم مشكلة الدروس الخصوصية وضعف مكونات المدرسة وتخلف منهاج التعليم التلقينى وانعدام الأنشطة التربوية ووجود خلل إدارى وكثرة التسرب منه وحتى نعلم عن امكانيات المدرسة من حيث نظام بنائها. نعلم كل هذه القصة التى لم تعد تحتاج التكرار. ولاتزال تتردد كثيرا حتى اننا حفظناها عن ظهر قلب. ولكننا لم نناقش ابدا مضامين التعليم الخاص البريطانى والألمانى والفرنسى والكندى والصينى والأمريكى ولا حتى مضامين التعليم الأزهرى بكل مستوياته، خاصة فى مراحله قبل الجامعية. فمرحلة التعليم العام قبل الجامعية هى التى تشكل وجدان الانسان وتستمر راسخة فيه. هذا التعليم الخاص الذى يتكون من التشكيلة المذكورة والتى تسهم فى بناء العقل المصرى الذي، من المفترض انه، سيتصدى لمشاكل بناء مصر المستقبل وطنيا واجتماعيا واقتصاديا. وحتى أكون واضحة، لا أطالب بإلغاء هذه التشكيلية من المؤسسات التعليمية المتنوعة. ولكنى أود أن اناقش مضمون المناهج التعليمية لهذه المدارس، وهى المناهج التى تشكل فى النهاية أعدادا كبيرة من العقول المصرية. والمغزى الثانى لهذه القصة هو تعبيرها الحاد عن انقسام المجتمع اجتماعيا. وهو انقسام رأسى يمكن متابعته اينما ذهبنا أوفى حالة تتبعنا لأى من المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. نرى سكان التجمعات الجديدة ثم نتحدث عن سكان العشوائيات، نتحدث دائما عن الفجوة بين العاصمة والريف ليس فقط كموقع جغرافى وإنما كصحة وكتعليم وكإسكان وكطرق حتى كنوعية مياه ورغيف العيش وحتى كحالات انقطاع الكهرباء. يساعد هذا الانقسام الرأسى الاجتماعى على تفاقم الانقسام الأفقى السياسى الذى نعيشه الآن والذى يعطل مسيرتنا الاجتماعية. فطالما دُفِعْنًا دفعا لأن نكون اثنين. وبالتالى يمكن أن نكون ثلاثة وأربعة، حدودى وابن الوادي، دلتاوى وصعيدي، رجل وامرأة وبالقطع مسلم ومسيحي. هذا الانقسام الاجتماعى الرأسى هو انقسام قديم فى وجوده ولكنه جديد فى تبلور ظواهره ووضوحه وتعبيره وكذلك فى حجمه. بكل صدق، جديد فى تفاقمه وتفاقم نتائجه. فحتى الذين يتباهون بإنجازات الفترة الستينية، وأنا منهم، عليهم أن يعترفوا باستمراربوجود هذا الانقسام الذى ورثته ثورة يوليو من النظام السابق لها ثم سلمته لمن جاء بعدها. الفارق الوحيد الفاصل بين العقد الستينى وبين ما قبله أو بين ما بعده هو أن فى الستينيات تم كسر دائرة هذا الانقسام الرأسى الاجتماعى فى محاولة لإعطاء الفقير، الذى لا يعرفه تلميذ المدرسة الخاصة الكاتب للوصف السابق المذكور، أن يري، أى الفقير، فرص الحراك الاجتماعى تتفتح أمام أبنائه ومستقبلهم من خلال قيمتين أساسيتين، فقدناهما شيئا فشيئا، هما قيمة العلم وقيمة العمل. وهنا نأتى إلى المهمة الأولى التى نراها واجبة لمواجهة هذا الانقسام المفاهيمى الذى زرع ولا يزال يزرع الآن فى مدارسنا الخاصة المتعددة المناهج وهى أن تتدخل وزارة التربية والتعليم فى حوار مع هذه المدارس، ليس لإغلاقها، وإنما لإدخال مواد دراسية إجبارية تخص اللغة العربية والتاريخ والمفاهيم الاجتماعية العامة التى نحتاجها بالإضافة إلى محاولة إدخال بعض الانشطة الاجتماعية غير الدراسية كجزء من المواد الثقافية العامة. وربما تنقل وزارة التربية والتعليم بعض نماذج هذه الانشطة من عدد من المدارس الخاصة ذات التراث فى هذا الشأن والتى تسعى العديد من الأسر إلى ضم أبنائهما لها. ثم نأتى إلى المغزى الاجتماعى العام الذى تعبر عنه قصة تلميذنا هذا. نأتى إلى الانقسام المجتمعى الذى بات يمس كل مجالات حياتنا. كيف نضيق الفجوة بين الريف والحضر وبين الرجل والمرأة وبين أهالى الحدود وأبناء الوادى وبين المراكز وقرى الدلتا والصعيد؟ مهمة ليست سهلة ولكنها ليست مستعصية كما أنها مهمة ليست سريعة الحل. إنها مهمة تمس صلب مستقبل مسارنا السياسي. كيف يمكن لرئيس دولة أن يقود البلاد إلى تحقيق القيمة الانسانية الأساسية التى تسعى إليها البشرية منذ القدم، أن يتمتع الانسان بالحرية وفى الوقت نفسه أن يشعر بالعدل الاجتماعي. هذه المعادلة الانسانية القديمة الجديدة. أظن أن هذا الموضوع سيكون صلب المناقشات القادمة من كل الأطراف السياسية خاصة بعد عرض البرامج السياسية لكل مرشح. لمزيد من مقالات أمينة شفيق