إن نظرية «حقول المكرونة» هى الدفع بالنقاش ناحية التساؤل حول أجود الأراضى لزراعة المكرونة، أو أفضل المواسم لحصدها، وطرق الرى الملائمة لكل نوع منها، بينما يتم تخطّى الطرح المبدئى (وهو أصل المكرونة) لصالح المستوى التالى من التفكير الذى استدعى اعترافًا ضمنيًّا بزراعة المكرونة. ويأتى كلامى على موضوع المكرونة مكررًا بعد الحادثة البشعة التى ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، بحرق الطيار الأردنى الأسير، معاذ الكساسبة، ونشر الفيديو الخاص بذلك ومعه مسوغات هذا الفعل ومرجعياته، ومع انتشار ردود الفعل الغاضبة من أغلب مَن شاهدوه، وشماتة بعض مَن ينتمون إلى هذه التنظيمات أو الداعمين لها، بينما كانت مشاهد حسرة قلب أهله ولهفتهم لفقدانه هى الخلفية التى أدمت قلوب المشاهدين، بالإضافة إلى تثمين قرار مَلِك الأردن بإعدام كل من الانتحارية العراقية، ساجدة الريشاوى، وزياد الكربولى المنتمى إلى القاعدة، شنقا، ورأى كثيرون أن هذا ردّ حازم على ممارسات هذا التنظيم الدموى الذى أصبح يهدِّد أمن المنطقة ودولها جميعًا. وهنا انبرى عديد من المحللين ليؤكِّدوا أن مرجعيات داعش بحرق الكساسبة موجودة فعلا عند ابن تيمية، بل زاد البعض أن أبو بكر قد قام بنفس الفعل بحرق الصحابى، الفجاءة السلمى، بل وبلغ الجدل مدى آخر حول أسباب الحرق، إن كان بسبب الردة أم اللواط، وكذلك خالد بن الوليد الذى قام بإحراق رأس خالد بن النويرة، بينما خرج البعض يؤكِّد أن فتوى ابن تيميّة مجتزأة من سياقها، وأن الرواية التى تدلّ على فعل أبو بكر باطلة مدى سندها على علوان بن داوود المجلى، وهو رجل مطعون فى روايته، بينما رواية خالد بن الوليد باطلة فى سندها، محمد بن حميد الرازى، وهو كذَّاب، إلى أن خرج الأزهر ببيان فصّل على لسان شيخه الجليل، واصفًا العمل ب الإرهابى والخسيس ، وأضاف أن الإسلام حرّم التمثيل بالنفس البشرية بالحرق أو بأى شكل حتى فى الحرب مع العدو المعتدى، وأن هذا العمل يستوجب العقوبة التى أوردها القرآن الكريم لهؤلاء البغاة المفسدين الذين يحاربون الله ورسوله بأن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وهنا نجد أنفسنا فى مستوى آخر من التفكير، حيث جررنا جميعًا نحو النقاش على طريقة القتل وأيها أكثرها وحشية، أو أيها ألطف وأرق، وإن كانت تروق لمن يشاهدها أو يطلع عليها، أو إن كانت تثير رعبه واشمئزازه، حيث ذهب نقاش بعض أهل الإعلام إلى أنه لا يجوز نشر صور أو مواد فيلمية بها قدر كبير من العنف، مراعاة لشعور المشاهد، بينما وجد رأى آخر أن عرض مشاهد العمليات الإرهابية لا يراعى حقوق الضحايا وأهاليهم، بل يسهم فى الحرب النفسية التى تسعى لها هذه التنظيمات التكفيرية! وكأن العذاب الذى حاق بأهل الكساسبة سيكون أهون عليهم إن شاهدوه يُشنق أو يُصلب أو يُطلق عليه الرصاص مثلًا! إن كمّ الوحشية وأنهار الدماء المراقة فى المنطقة هى ما استدعت عندى مَثل حقول المكرونة ، لأننا كما نحتاج إلى مَن ينبّهنا إلى أن المكرونة لا تُزرع، فإننا بدخولنا فى مناقشات عن أفضل أساليب القتل وتعديد أنواعه والأسباب الداعية إليه ومرجعيات ذلك ومدى صحتها، نكون قد قررنا بأحقية الطرح الأوّلى وهو القتل كمبدأ، بينما الخلاف فقط على تفاصيله، ولذلك فإننى أجد أننا نحتاج إلى مَن يذكِّرنا بإنسانيتنا، صارخًا فى وجوه كل البشر بأن القتل بشع فى ذاته أيًّا كان مقترفه، وأيًّا كانت الطريقة التى يؤدّى بها، بغضّ النظر عن الزمان والمكان.