ليس الموضوع فاتن حمامة، رغم عبقريتها وموهبتها الفذة وتفرُّدها، لكنه الزمن الذى مهَّد وصقل موهبة فاتن، زمن يُغنِّى فيه محمد عبد الوهاب «يا وابور قولى رايح على فين» و«الجندول» و«أين من عينيا هاتيك المجالى»، فتردّ عليه أم كلثوم «على بلد المحبوب ودِّينى» و«وُلِد الهد». زمن يكتب فيه طه حسين فى الشعر الجاهلى، ويُكفِّره بعض المتشددين الذين ابتلانا بهم الزمان، فينصفه رئيس نيابة من ذلك الزمن الرائع اسمه -وما زلت أتذكَّره- محمد نور الدين فى ردّ مفحم ورائع، يجب أن يدرس عن حق الاجتهاد كما فهمه هذا المسلم الحق، وليس كهنة الإسلام ممن يحسبون أنفسهم أوصياء علينا. زمن فيه شعراء بموهبة أحمد شوقى وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى، وشعراء عامية بعظمة بيرم التونسى وفؤاد حداد، يكتب فيه الأغنيات أحمد رامى وحسين السيد ومرسى جميل عزيز، ويُبدع الألحان القصبجى والسنباطى والموجى والطويل وبليغ، بديهى أن يُنجب فاتن حمامة. أليست حالة عامة حيث كل شىء محترم، الناس والشوارع والصحة والنظافة، فلماذا لا يكون الفن كذلك؟! حتى فن المونولوج كان عظيما، ولنعد إلى مونولوج السعادة لإسماعيل ياسين الذى كتبه الرائع أبو السعود الإبيارى، ولحَّنه لطيف أفندى المناسترل (هل سمع عنه أحد؟!) درس فى فلسفة الحياة. إنه زمن بركات وكمال سليم وكامل التلمسانى وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين، فكيف لا تظهر فاتن! وكيف لا يظهر زعيم بحجم ناصر ومشروعات بقيمة السد العالى وقرار بعظمة تأميم قناة السويس. زمن شبابه حليم وعمر الشريف وأحمد رمزى، وفتياته اللاتى يداعبن أحلام الشباب المصرى هن فاتن وشادية ونادية لطفى وهند رستم وسعاد حسنى، فماذا ننتظر! لا بد أن تنهض مصر، ويصبح فنها ولسانها هما لسان حال العرب من المحيط للخليج، ولا بد أن تكون القائد بحكم الدور والموقع والريادة، وقبل كل ذلك هؤلاء المبدعون العظام فى كل المجالات كأنهم حبات اللؤلؤ على جِيد المحروسة.. فماذا حدث؟! جاء زمن البيع لكل ما هو رائع وجميل ولصالح كل ما هو فجّ وردىء، المنديل الحرير بديله المناديل الورقية، وكوز المحبة اتخرم، وأفلام المقاولات والهجرة الجماعية لكل العمالة الفنية المدربة لدول الخليج فى عملية مسح ممنهجة للهُوية المصرية، قادها بكل العزم والتوجيه -كما قال- رئيس مسلم لدولة مسلمة قائد الحرب والسلام والانفتاح و كامب ديفيد والفراخ الميتة والعمارات التى تقع فوق رؤوس ساكنيها فى أكبر عملية فساد وإفساد حدثت فى تاريخ هذا الوطن، فكيف لا تظهر أغنيات تناسب هذا الوضع بحبك يا حمار و العنب العنب ! حتى وصلنا إلى عصر مبارك الميمون الذى أجهز على البقية الباقية من دور مصر الذى تستحقه. الفن هو مرآة المجتمع، وفاتن حمامة كانت نتاجا لمجتمع تستحقه ويستحقها، نأمل ونتمنى ونترجَّى ونستحلف أن يعود بعضٌ من هذا الزمن الرائع زمن فاتن حمامة.. إنه حقا.. زمن فاتن.