تكشف تجارب التحول الديمقراطى عن لعب الأحزاب السياسية المدنية الدور الجوهرى فى هذه العملية، فلا ديمقراطية دون أحزاب سياسية، ولا تحول ديمقراطى دون أحزاب فاعلة تمارس دورها، تتطور وتطور معها العملية الديمقراطية. طبعا تتسم الأحزاب السياسية بالهشاشة والضعف فى بدايات تكوينها وفى المراحل الأولى من عمليات التحول الديمقراطى، ومن ثم تتطور الأحزاب وتتطور معها العملية الديمقراطية. ولم تحقق أى دولة عملية التحول السياسى الديمقراطى دون أن تمتلك أحزابا سياسية فاعلة. ولا تأتى عملية نضوج الأحزاب السياسية بين ليلة وضحاها، بل تستغرق وقتا يصل فى المتوسط إلى عشر سنوات منذ ظهورها حتى نضوجها، والمقياس هنا نأخذه من تجربة التحول الديمقراطى فى دول شرق ووسط أوروبا، التى بدأت مع انهيار سور برلين عام 1989. ففى غضون دورتين انتخابيتين تراوحتا ما بين ثمانى وعشر سنوات، حققت الأحزاب السياسية فى شرق ووسط أوروبا درجة عالية من التطور والنضوج، وبات فى مقدورها ممارسة الحكم. ويلاحظ أن الميراث المدنى العلمانى فى الثقافة الأوروبية أسهم كثيرا فى عملية النضوج السياسى، فلا مكان على سبيل المثال للأحزاب السياسية الدينية التى تستخدم الدين، وتخلط بينه وبين السياسة، ففى التجارب الأوروبية وغربية الثقافة مثل جنوب إفريقيا بدا واضحا أن الأحزاب السياسية حققت طفرات كبيرة من التطور والنضج السياسى، ونجحت فى غضون عقد واحد من السنين فى التحول إلى أحزاب سياسية تتداول السلطة وفق القواعد العامة المجردة لتداول السلطة. أما لدينا فى مصر فقد بدا واضحا أن الإطار الثقافى والبيئة الحاضنة للجماعات الدينية وعدم الفصل ما بين الدين والسياسة، إضافة إلى انتشار الجهل والأمية، قد وسمت تجربة التحول الديمقراطى بالتشوه الشديد، فقد أقر التعديل الدستورى لعام 2011 بقيام الأحزاب على أساس دينى، ومن ثم تشكلت لدينا فى مصر أحزاب سياسية دينية لا تؤمن بالدولة المدنية، بل لا تؤمن بالديمقراطية ولا التداول السلمى للسلطة. لا تؤمن هذه الأحزاب بالديمقراطية فى أبسط معانيها، التى تعنى حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه، وأن الشعب هو مصدر السيادة، فهذه الأحزاب تؤمن بحكم الشريعة والتشريع الإلهى، ومن ثم لا تعتبر الشعب المرجعية ومصدر السلطات، فتستخدم خطابا مراوغا يجمع ما بين الدينى والسياسى. وقد حصدت هذه الأحزاب غالبية مقاعد البرلمان فى أول انتخابات برلمانية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وبدأت فى تغيير البنية التشريعية فى البلاد بالكامل. كشفت أول انتخابات برلمانية فى البلاد بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 عن هشاشة وضعف الأحزاب المدنية، وقد أدى تجاوز أحزاب الإسلام السياسى إلى خروج الشعب فى ثورة جديدة فى الثلاثين من يونيو 2013، وأعاد المرحلة الانتقالية من جديد، وبتنا على أبواب ثانى انتخابات برلمانية بعد الثورة، وقد جرت انتخابات رئاسية نموذجية، وحصد الرئيس منصبه بأكثر من 96٪ من الأصوات الصحيحة، ولم يكن الرئيس منتميا لأى من الأحزاب المدنية، بل جاء من عمق مؤسسات الدولة المصرية، واليوم تقف الأحزاب السياسية المدنية فى مصر أمام مسؤولياتها التاريخية، فهل ستتمكن هذه الأحزاب من تشكيل قوائم تتنافس من خلالها على المقاعد المخصصة للقوائم، وتخوض تنافسا حقيقيا حول المقاعد الفردية؟ الإجابة حتى هذه اللحظة هى لا، فمنذ الانتخابات السابقة لا جديد تحت السماء فى ما يخص نضج الأحزاب المدنية، وهى معضلة حقيقية تبحث عن حل، لا سيما فى ظل استمرار عمل بعض الأحزاب على أساس دينى وبالمخالفة لدستور البلاد القائم، ولكنها ضرورات ومواءمات الواقع. ويظل السؤال ما العمل سؤالا مفتوحا فى حاجة إلى اجتهادات.