خطت تونس الاختبار «الأصعب» فى طريق بناء المؤسسات الدائمة للدولة عبر إجرائها الانتخابات التشريعية فى 26 أكتوبر الماضى لتضيف بذلك نهجا جديدا لرصيد نجاحها فى إجراء الانتخابات التأسيسية التشريعية والرئاسية التى جرت فى أكتوبر وديسمبر 2011، ثم فى إقرارها الدستور فى مطلع يناير 2014 الذى يمنح البرلمان والحكومة سلطات واسعة مقابل سلطات محدودة لرئيس الجمهورية. بحيث تجاوزت تونس عثرات الانتقال الديمقراطى على مدار السنوات الثلاث الماضية الواحدة تلو الأخرى فى ظل ظروف داخلية اقتصادية وأمنية واجتماعية غاية فى الصعوبة من ناحية، وفى ظل تقلبات خارجية إقليمية حادة كان أبرزها على الإطلاق حالة التأثر بالوضع الأمنى المتدهور فى جارتها الليبية من ناحية ثانية، وتداعيات تجربة حكم جماعة الأخوان المسلمين فى مصر من ناحية ثالثة. الشرعية الانتخابية فقد جاءت نتيجة الانتخابات التشريعية الأخيرة معلنة فوز حزب نداء تونس الليبرالى الذى يتزعمه الباجى قائد السبسى- أحد رموز نظام بن على - بنتائج الانتخابات التشريعية التى سيتم بمقتضاها انعقاد أول برلمان تشريعى دائم يمارس صلاحياته فى التشريع والرقابة لمدة خمسة سنوات قادمة؛ والحزب الذى يقاس عمره فى خريطة العمل السياسى بعامين ونصف العام استطاع حصد 85 مقعدا، متقدما بذلك على حزب النهضة ذى المرجعية الإسلامية الذى تراجع إلى المرتبة الثانية حاصدا 69 مقعدا، وذلك على العكس من نتائج الانتخابات التشريعية التأسيسية التى أجريت فى 23 أكتوبر 2011 وحصل بمقتضاها حزب النهضة على الأكثرية البرلمانية متحالفا مع حزبى «التكتل من أجل العمل والحريات»، و«المؤتمر من أجل الجمهورية» فى ترويكا حاكمة استمرت فى الحكم حتى مطلع العام الحالى حتى تم تفكيكها بعد أن وافق حزب النهضة على التنازل عن «الشرعية الانتخابية» التى منحها الشعب له فى الانتخابات التأسيسية تحت وطأة مظاهرات واعتصامات المعارضة التى اجتاحت الدولة عقب اغتيال معارضين سياسيين على يد متشددين، وآثر الحزب «التوافق» مع غيره من القوى السياسية المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون مهمتها الأساسية الإشراف على الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية الجديدة. النتائج السابقة تعكس إذن تبدلا كاملا فى المشهد السياسى التونسى كان أبرز ملامحه هو ظهور حزب «نداء تونس» على الخريطة الحزبية وتنامى شعبيته بوتيرة سريعة على مدار العامين الماضيين بصورة وازنت ونافست حزب النهضة الذى امتاز طوال السنوات الثلاث الماضية بإبداء قدر كبير من المرونة والعقلانية بشأن مسار التحول الديمقراطى لاسيما تحت وطأة الرقابة الصارمة التى مارستها أحزاب المعارضة لدور الحزب فى المرحلة الانتقالية، وفى خطوة تعكس استمرار «النهج التوافقى» الذى امتاز به حزب النهضة أعلن الحزب قبوله بنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، وطالب الحزب الفائز بالتوافق مع غيره من القوى السياسية لتشكيل حكومة قادرة على إدارة الدولة فى مرحلة ما بعد الاستحقاقات الانتخابية، ووفقا للنتائج السابقة فإن حزب نداء تونس لم يحصل على أغلبية (50+1) التى تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا، الأمر الذى يضطره إلى التحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما يضع علامات استفهام كثيرة حول التحالفات القادمة فى البرلمان لتشكيل الحكومة وسيناريوهات المستقبل السياسى فى تونس. موازين متحركة صعود حزب نداء تونس (الجديد/ القديم)، والذى تأسس منذ عامين فقط ويضم سياسيين من أعضاء حزب التجمع الدستورى الديمقراطى المنحل وعددا من النقابيين وبعض المستقلين، إلى المشهد السياسى وتصدره له بناء على نتائج الانتخابات التشريعية الجديدة كان وبلا شك خصما من الرصيد الشعبى لحزب النهضة المؤسس منذ أكثر من أربعين عاما مقارنة بنتائج الانتخابات التشريعية التأسيسية فى أكتوبر2011 ، ولهذا التبدل فى موازين القوى الحزبية التونسية ما يفسره: أولا، البعض يرى أن حركة النهضة قد دفعت ثمن تصدرها المشهد السياسى فى المرحلة الانتقالية وقيادة الدولة فى مراحل صعبة كانت آمال الجماهير فيها عقب الثورة كبيرة وطموحة للغاية بينما كان الواقع الاقتصادى أكثر تدهورا وقتامة، أضيف إليه تردى الأوضاع الأمنية مع ضعف أداء الترويكا الحاكمة التى كان حزب النهضة قاطرتها بالاشتراك مع حزبى التكتل والمؤتمر، ومن ثم كان الفشل فى استيعاب ومعالجة مشاكل المرحلة اقتصاديا وأمنيا وما ارتبط بتداعياتهما مجتمعيا سببا مباشرا فى تراجع شعبية النهضة وحزبها ودفع شريحة كبيرة من التونسيين إلى الحنين للنظام السابق والتصويت لصالح نداء تونس. ثانيا، الارتباط بين حزب النهضة ذى المرجعية الإسلامية والجماعات المتشددة كان من العوامل التى عاقب بها المقترعون الحزب فى الانتخابات الأخيرة لاسيما وأن هذه الجماعات تورطت فى اغتيال اثنين من رموز المعارضة. ثالثا، نجاح حملة حزب نداء تونس الانتخابية التى جاءت تحت شعار «الأمل واستعادة تونس الدولة» وعبر مساندة إعلامية ضخمة فى حشد قاعدة شعبية خلال مدة قصيرة جدا منتهجة سياسية «تخويف» قطاعات المجتمع من محاولات النهضة وما يرتبط بها من جماعات قد تسعى إلى فرض ثقافة دينية محددة، وما يترتب على ذلك من تقييد للحريات الشخصية للتونسيين ومن ثم إحداث تغيير فى نموذج المجتمع الذى يتسم بالوسطية والاعتدال والحداثة، وقد أتت سياسة التخويف الإعلامية عبر القصف الصحفى اليومى للنهضة ثمارها لدى قطاع كبير من التونسيين رغم التطمينات المتكررة لحزب النهضة فى هذا الشأن. رابعا، إخفاق حزب النهضة فى فهم خصوصية النخبة العلمانية فى تونس وقربها بل وسيطرتها على المنابر الإعلامية المختلفة مما أتاح لها الفرصة للتركيز الإعلامى على المشاكل التى واجهت الدولة خلال المرحلة الانتقالية التى تصدر قيادتها حزب النهضة، يضاف إلى ذلك فشلها فى تقدير قوة رموز النظام السابق – الذين يمثلون أغلبية أعضاء حزب نداء تونس- واستعادتهم المبادرة عبر إعادة توظيفهم لشبكة مصالح استطاعت أن تتأقلم مع التطورات الحادثة فى المشهد السياسى خلال الفترة الماضية. خامسا، استهانة حزب النهضة بقوة المعارضة وقدرتها على الحشد الانتخابى فى ظل حالة الاستقطاب السياسى الذى شهدته الساحة الحزبية فى تونس قبيل الانتخابات التشريعية ما بين إسلامى وعلمانى، والذى صب فى مصلحة حزب نداء تونس، بينما أضير كل من حزب النهضة والأحزاب التى عرفت بتقلد مشهد المعارضة التقليدية وكانت تمثل الحراك السياسى المعارض للنظام البورقيبى برمته منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي. حالة توافقية بالرغم مما سبق فإن تراجع حزب النهضة لا يعنى بأى حال من الأحوال ابتعاده عن المشهد السياسى نظرا للفارق الضئيل بينه وبين نداء تونس ما يجعله شريكا فى الحكم سواء داخل الحكومة عبر التحالف مع حزب الأكثرية، أو عبر تزعمه المعارضة السياسية، وإن مثل تراجعه الانتخابى فى حد ذاته فقدانه قدرا يعتد به من شعبيته نتيجة لأخطاء فى الممارسة والتطبيق. وبالرغم من تراجع شعبية حزب النهضة لصالح نداء تونس فإنه سيظل صاحب حصة برلمانية يعتد بها بحيث لايمكن إهمال دوره فى تمرير أو إعاقة أى تشريعات برلمانية قادمة. وفى الوقت نفسه فإن ابتعاده عن تصدر السلطة يعطيه فرصة لإجراء مراجعات نقدية لدوره خلال السنوات الثلاث الماضية ما يمكنه من معالجة الأخطاء التى ارتكبها خلالها. فالموقع الجديد لحزب النهضة فى المشهد السياسى التونسى وفقا لهذا التصور يتوقف إلى حد كبير على مدى استمرارية الحالة التوافقية والنهج المرن المعتدل الذى أبدته الحركة والحزب تجاه العديد من الأزمات والتى بلغت ذروتها فى مطالبة غيرها من القوى السياسية بفك الائتلاف الحاكم الذى يجمعها وحزب التكتل والمؤتمر كشريطة لاستكمال مسار الانتقال الديمقراطى لصالح تشكيل حكومة توافق وطنى، وهو النهج الذى أنقذ تونس من أزمة سياسية حادة كادت أن تعصف بالتجربة الانتقالية ككل. كذلك استمرارية ارتكانه إلى مبدأ «الحوار» مع غيره من مختلف القوى السياسية، لاسيما أن المرحلة القادمة تمثل منعطفا مهما على الجميع فى تونس تجاوزه؛ حيث ترتيبات تشكيل الحكومة التوافقية وحسابات الأحزاب الفائزة وتحالفاتها داخل البرلمان، بالإضافة إلى الاستحقاق الرئاسى القادم وهو تحد جديد للديمقراطية الناهضة فى تونس، كما أن حفاظ الحزب على وعده بعدم خوض الانتخابات الرئاسية يزيد من مصداقيتة ويدعم من توافقيته ومرونته تجاه سياق العمل السياسى ككل، وعلى الجانب الآخر فإن القوى السياسية الأخرى لاسيما الحزب الفائز نداء تونس مطالب بدعم التوافق ذاته، خاصة أن الانتخابات التشريعية أثبتت قبول الإسلام السياسى فى تونس عمليا وواقعيا بفكرة تداول السلطة بين الأحزاب. الربيع التونسي تمثل التجربة التونسية نموذجا عربيا مختلفا فى التحول الديمقراطى حيث يمكن رصد عدة ملاحظات للدلالة على ذلك منها: التحلى بالمرونة التى امتازت بها حركة النهضة مع غيرها من القوى السياسية ما مكنها من استيعاب متغيرات المرحلة الانتقالية، وكذلك استيعابها لدور غيرها من القوى السياسية كشركاء فى بناء المسار الديمقراطى، أيضا تمتاز القوى السياسية فى تونس من إسلاميين ويساريين وليبراليين بغياب الخطاب الإقصائى؛ حيث «أدارت» تلك القوى تنافسها وصراعها السياسى وفقا للقواعد القانونية والدستورية وعبر آليتى «الحوار» و«الانتخابات» وعدم تبنى خطاب إقصائى يقوم على بث الكراهية ورفض الآخر. كما تمتاز التجربة التونسية بوجود جبهة متنوعة من جميع القوى السياسية المشاركة فى ثورة 14 يناير 2011 التى لم تتنازل عن فكرة «مدنية الدولة»، أضف إلى ذلك دور المؤسسة العسكرية فى الحياة السياسية والذى يعتبر منعدما وغائبا بفعل القانون الانتخابى التونسى الذى يحظر على العسكريين المشاركة فى العملية الانتخابية، وبفعل حالة التفاعل بين القوى السياسية التى لم تستدع تدخل المؤسسة العسكرية فيها، حيث نجحت تلك القوى فى حصر تفاعلاتها فى نطاق المنافسة السياسية وليس الاحتراب السياسى. ويحسب للحالة التونسية نجاحها فى أن تقوض من ممارسات رموز النظام القديم إلى حد ما بفعل الضوابط القانونية التى وضعتها الدولة خلال السنوات الثلاث الماضية، وبفعل طبيعة القوى السياسية التى تمتاز بدرجة عالية من الوعى السياسى ومراقبتها بقوة لمجريات الحياة السياسية، وارتكانها دائما لحلول «وسطية توافقية سياسية» وليست أمنية فى مواجهة تطورات الحياة السياسية، وبفعل ميزة تفردت بها تونس عن نظيراتها من دول الثورات العربية وهى قوة مؤسسات المجتمع المدنى بها، وارتفاع نسبة التعليم والانفتاح الثقافى، وكذلك طبيعة تيار الإسلام السياسى بها ومرونته وحداثيته. رابح - رابح وختاما يمكن القول إن الانتخابات التشريعية التونسية التى أسفرت عن تراجع حزب النهضة الإسلامى وتقدم نداء تونس عكست حقيقة واحدة وهى أن الكل فى تونس رابح، وأن الرابح الأكبر هو الشعب الذى حافظ على ثورته وحماها من الاختطاف، وتظل تونس بذلك مهدا للربيع العربى وتظل سباقة ومتفردة بحيث أوجدت نموذجا لتداول السلطة بطريقة سلمية بعيدا عن العنف والحلول الأمنية للمشكلات وعبر سياسة استيعاب الآخر مهما كانت درجات الخلاف والتنافس السياسى.