ما إن أظهرت النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية في تونس تقدم حزب "نداء تونس" الليبرالي, إلا وأكد كثيرون أن المهمة لن تكون سهلة أمامه لتشكيل حكومة جديدة, خاصة أنه لم يفز بالأغلبية المطلقة للأصوات (50+1). وكان حزب "نداء تونس" حصل على حوالي ثمانين مقعدا من جملة 217 , مقابل سبعين مقعدا لحركة النهضة الإسلامية, وفقا للنتائج الأولية. ووفقا لأحكام الدستور التونسي الجديد, فإن رئيس الجمهورية يكلف مرشح الحزب الفائز بأغلبية المقاعد بتشكيل الحكومة، وبما أن "نداء تونس" لم يفز بالأغلبية المطلقة "109 مقاعد", فإنه سيضطر للتحالف مع أحزاب ممثلة داخل البرلمان الجديد. وقال مراقبون إن هناك ثلاثة سيناريوهات لتشكيل الحكومة القادمة في تونس، أولها تحالف "نداء تونس" مع أحزاب أخرى قريبة منه مثل حزب "آفاق" الليبرالي (ثمانية مقاعد تقريبا), و"الاتحاد الوطني الحر" بقيادة رجل الأعمال سليم الرياحي (17 مقعدا), بل حتى مع الجبهة الشعبية (أقصى اليسار), التي تشير تقديرات إلى حصولها على عشرة مقاعد تقريبا. أما بالنسبة للسيناريو الثاني, فقد يلجأ "نداء تونس" إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية مع خصمه السياسي "حركة النهضة", بينما السيناريو الثالث, أن تلتقي حركة النهضة مع جل الأحزاب الفائزة بمقاعد في البرلمان القادم, ما عدا "نداء تونس وآفاق". ورغم أن رئيس حزب "نداء تونس" رئيس الوزراء الأسبق الباجي قايد السبسي ألمح إلى عدم التحالف مع النهضة, إلا أن هناك تخوفات من أن الحكومة القادمة في تونس ستكون هشة جدا, إذا اعتمدت على أغلبية بسيطة, ولون سياسي واحد. وكان السبسي قال إن حزبه سيحكم مع الأقرب لهم, في إشارة إلى استبعاد "النهضة", وأشار في تصريحات لقناة "الحوار التونسي" الخاصة مساء الاثنين, الموافق 27 أكتوبر إلى تأثير الانتخابات التشريعية على الانتخابات الرئاسية, التي ستنظم في 23 نوفمبر المقبل, والتي ترشح لها. وردا على سؤال حول إمكانية تحالف حزبه مع حركة النهضة للحصول على أغلبية مريحة، قال القيادي بحركة "نداء تونس" ناجي جلول أيضا :"نحن سنتحالف مع من يشبهنا"، مذكرا بأن حزبه وعد ناخبيه بعدم التحالف مع حركة النهضة "لاختلاف المرجعيات الأيديولوجية". وحول هوية الأحزاب التي يمكن أن تتحالف حركته معها، أشار جلول في تصريحات لقناة "الجزيرة" إلى إمكانية التحالف مع ائتلاف الجبهة الشعبية اليسارية، التي جاءت بالمركز الرابع بنحو 14 مقعدا (من جملة 217), وحزب آفاق تونس (ليبرالي), والمبادرة (دستوري), وبعض القوائم المستقلة. لكنه استطرد "في حال تعطل تشكيل الحكومة لعدم وجود أغلبية مريحة داخل البرلمان، فإن هناك إمكانية لتشكيل حكومة وحدة وطنية أوسع، مع بقية الأطراف"، موضحا أن صيغة هذه الحكومة سيتم الحسم فيها بعد مشاورات حزبه مع حلفائه التقليديين. وبعيدا عن كل ما سبق, قال جلول إن حزبه سيشرع في مفاوضات تشكيل الحكومة بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، التي ترشح لها رئيس حزبه، مبينا أن الدستور الجديد يفرض انتخاب رئيس جمهورية جديد لتكليف مرشح الحزب صاحب الأغلبية بتشكيل الحكومة. ولدى سؤاله إذا كان حزب نداء تونس يفكر في عقد اتفاق مع حركة النهضة لدعم الباجي قايد السبسي في الانتخابات الرئاسية, مقابل منحها حقائب وزارية، قال جلول: "لسنا بحاجة لدعم النهضة لوصول السبسي للرئاسة، فلدينا ما يكفي من الأصوات لدعم ترشحه". ومن جهته, قال القيادي في حركة "النهضة" محمد بن سالم إن الحديث عن تحالف مع حزب نداء تونس, "سابق لأوانه"، مشيرا إلى أن مؤسسة مجلس الشورى أعلى سلطة قرار داخل الحركة ستجتمع قريبا جدا للبت في دعم مرشح للرئاسيات, على اعتبار أنها لن ترشح أحدا. وأضاف بن سالم في تصريحات لقناة "الجزيرة" أن حزبه "حقق نتيجة مشرفة في الانتخابات البرلمانية, رغم حملات التشويه, التي واجهها طيلة فترة حكمه، وأكد أن حزبه له رصيد كبير من المقاعد داخل البرلمان, وبإمكانه أن يختار البقاء في المعارضة "كقوة تعديل وترشيد للحفاظ على تحقيق أهداف الثورة". وتابع أن حركة النهضة ستتفاعل مع مقترحات نداء تونس بشأن تشكيل الحكومة بما يتماشى ومصلحة البلاد، لكن حتى في حال عدم انضمام حركته للحكومة القادمة, فإنه يؤكد بأنها "ستكون قوة بناء وليس قوة تعطيل من أجل الحفاظ على الوهج الديمقراطي وأهداف الثورة". وبدورها, أكدت "الجبهة الشعبية" أن أي تونسي عاقل يعلم أن البلاد لا يمكن أن تحكم في الوقت الراهن وفقا لحسابات الأغلبية والأقلية، لافتة إلى أن التوافق شكّل المخرج للأزمة التي هزت البلاد أواخر العام الماضي. كما شدد حزب "التكتل" على ضرورة تشكيل "حكومة مصلحة وطنية لقيادة المرحلة المقبلة لأنها حرجة ولها خصوصياتها بسبب الوضع الاقتصادي والتحدي الأمني", أما القيادي بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية سليم بن حميدان فقد أكد أن التوافق يجب أن يتحقق بين القوى المؤمنة بالثورة فقط. وكانت المؤشرات الأولية للانتخابات البرلمانية, التي أجريت في تونس في 26 أكتوبر, أشارت إلى تقدم نداء تونس بحصوله على نحو 80 مقعدا, تليه حركة النهضة بنحو 70 مقعدا, بينما المقاعد الأخرى توزعت على النحو التالي: 17 مقعدا للاتحاد الوطني الحر، و12 مقعدا للجبهة الشعبية، وتسعة مقاعد لحركة آفاق، وخمسة مقاعد للتيار الديمقراطي، وأربعة مقاعد لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. كما أظهرت النتائج ذاتها فوز حزب المبادرة بأربعة مقاعد، وهناك مقعدان لحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، ومقعد للحزب الجمهوري، وآخر لحزب تيار المحبة، ومقعد لحزب الوفاء للمشروع، ومثله لحزب صوت الفلاحين، ومقعد لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، ومقعد لحزب المجد للجريد، واثنان من المستقلين. وبهذه النتائج، حقق نداء تونس مفاجأة وأسبقية نسبية عن النهضة -أكبر الأحزاب الفائزة في انتخابات أكتوبر 2011 الخاصة بالمجلس التأسيسي "البرلمان", حيث إن معظم التوقعات كانت تذهب باتجاه أن يكون نداء تونس بزعامة الباجي قايد السبسي الحزب "الثاني" في البرلمان, بعد النهضة. كما أظهرت النتائج تراجعا كبيرا لقوى كان يمكن أن تحصل على مراتب متقدمة، من ذلك حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات الذي يقوده رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر. وبالإضافة إلى ما سبق, أظهرت النتائج عودة لرموز حزب "التجمع الدستوري" السابق المنحل في عدد من المقاعد، وهو ما يشير إلى أن المشهد السياسي في البلاد في طريقه للتغير بشكل كامل في الفترة المقبلة. وتنافست أكثر من 1300 قائمة حزبية وائتلافية ومستقلة على 217 مقعدا لاختيار مجلس الشعب التونسي القادم، بينها 18 مقعدا للتونسيين في الخارج. ونشرت السلطات ما لا يقل عن خمسين ألفا من عناصر الأمن، بالإضافة إلى آلاف من أفراد الجيش لحماية مراكز الاقتراع والأمن العام. وقالت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس إن نسبة التصويت العامة قاربت 62%. ويمنح دستور تونس الجديد, الذي تمت المصادقة عليه مطلع عام 2014، صلاحيات واسعة للبرلمان ورئيس الحكومة, مقابل صلاحيات أقل لرئيس الجمهورية. وبحكم الفصل 89 من الدستور التونسي، يكلف رئيس الدولة الحزب الفائز في الانتخابات بتشكيل الحكومة. وكان الأمين العام للمجلس الأوروبي ثوربيورن ياغلاند أشاد بالإقبال الكبير على التصويت فى انتخابات تونس, التي سينبثق عنها مجلس شعب يضم 217 نائبا, وتكون ولايته خمس سنوات. وأشار ياغلاند في تصريحات لوكالة "رويترز" إلى نسبة المشاركة في الانتخابات, وهي الثانية منذ الثورة, بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 , تعتبر نجاحا للتجربة الوليدة في تونس. وبالنسبة للدلالات التي يمكن استخلاصها من التجربة التونسية، وذلك في إطار مقارنتها بأساليب التغيير التي شهدتها بقية دول الربيع العربي, أشار الكاتب والمحلل السياسي التونسي صلاح الدين الجورشي إلى ميزة غياب النبرة الاستئصالية للنخبة التونسية، موضحا أن الخط العريض للنخبة كان إدارة الصراع مع الإسلاميين وفق الدستور والقانون ونتائج الانتخابات. وأضاف الجورشي في تصريحات لقناة "الجزيرة" أن حركة النهضة ساهمت بفاعلية في إنجاح المسار الديمقراطي بسبب انغماسها في الخصوصية التونسية وعدم التعامل بوصفها حركة إسلامية عالمية. وتابع أن "النهضة قدمت تنازلات وسلمت السلطة لحكومة تكنوقراط بعد الحوار الوطني الذي انعقد في أعقاب الأزمة التي هزت البلاد العام الماضي بعد اغتيال المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ووصف ذلك بأنه "حكمة أفشلت مخططات إجهاض الثورة". وفي السياق ذاته, قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة "وستمنستر" البريطانية عبد الوهاب الأفندي إن أبرز الدروس المستفادة من التجربة التونسية هو "وجود جبهة متحدة من أجل الديمقراطية"، مؤكدا أن مشكلة مصر تتمثل في تصدع الجبهة, التي قادت الثورة ضد نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك.