أسهم سعى الولاياتالمتحدة الحثيث، خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين ومطلع الألفية الجديدة، إلى فرض نُظمها الاقتصادية والاجتماعية وأنساق مصالحها وقيَمِها، والإطار النظمى الجديد الذى يتعين أن يؤسس لعالم ما بعد الحرب الباردة، فى بروز حركات مناهضة عديدة حول العالم سعت إلى تقويض تلك المساعى الأمريكية للهيمنة. برز فى هذا السياق، تنظيم القاعدة الذى منح قوى الإسلام السياسى الأكثر تطرفًا ومحافظة وتقليدية فرصة لإعادة تعريف دورها وتعبئة قواها لمواجهة ما عدّته محاولة غربية لمحو القيم وعناصر الهوية المستمدة من الانتماء إلى الدين الإسلامى. وتصدر التنظيم ما بات يُعرف بحركة الجهاد العالمى التى ارتكزت على شن عمليات إرهابية نوعية على نطاق عالمى، بلغت ذروتها فى هجمات 11 سبتمبر 2001. وبالتوازى مع نموذج الجهاد العالمى الذى استند إلى استراتيجية القتال المتحرك بأكثر مما استهدف تكريس مشروع سياسى ثابت على الأرض، برز نموذج مختلف تبنته حركة طالبان فى أفغانستان مع سعيها إلى تأسيس كيان سياسى على الأرض، يعكس تصورات تيارات الإسلام الراديكالى عن الدولة ودورها. ومنذ التدخل العسكرى الأمريكى فى كل من أفغانستان والعراق، تراوحت حركة التنظيمات الإسلامية الراديكالية بين هذين النموذجين، وإن غلب عليها نموذج الجهاد العالمى، رغم تراجع فاعلية التنظيم المركزى ل القاعدة بعد الضربات التى تعرض لها فى أفغانستان وباكستان، حيث برزت تنظيمات فرعية تستلهم نموذج التنظيم فى أكثر من منطقة من مناطق الصراع والهشاشة السياسية والأمنية فى الفضاء الحضارى الإسلامى. إلا أنه مع تكرار حالات انهيار الدولة التى صاحبت تفجر انتفاضات الربيع فى أكثر من دولة عربية، فإن نموذج تأسيس كيان سياسى عاد إلى البروز مرة أخرى، مع تمدد تنظيم الدولة الإسلامية فى الشام والعراق (داعش) فى إقليمى كل من سوريا والعراق، مهددًا بتحطيم الخريطة السياسية التى استقرت عليها تلك المنطقة لنحو مئة عام. ومنح هذا التمدد مشروع الإسلام السياسى أفقًا غير مسبوق من خلال إتاحة، ليس مجرد تأسيس دولة على غرار الحالة الطالبانية، ولكن إمكانية أن تؤسس هذه الدولة نموذجًا لوحدة سياسية ينتظم فيها المسلمون من دون تقيد بحدود أو أوطان، وهو النموذج الذى يمثل الغاية الأممية النهائية والعليا لهذا المشروع بمختلف أجنحته ومناهجه. بات داعش بالتالى القطب الجديد الذى يتصدر مشهد الإسلام الراديكالى، إلا أن التنظيم ظل حريصًا على عدم الالتحاق بنموذج القاعدة فى الجهاد العالمى ، بل إن الاتهامات المتبادلة ومحاولات نزع الشرعية باتت السمة الرئيسية لعلاقة التنظيمين، حتى إن العدد الأخير، الصادر فى 30 ديسمبر 2014، من مجلة دابق الناطقة بلسان داعش تضمنت مقالين يهاجمان صراحة تنظيم القاعدة فى شبه جزيرة العرب الذى ينشط فى اليمن، بعدما اعتبر هذا التنظيم دولة الخلافة التى أعلنها داعش غير شرعية. فى هذا الإطار يبدو من التساؤل الجوهرى عما إذا كانت الأنباء المتواترة عن انتماء منفذى العمليات الإرهابية الأخيرة فى فرنسا إلى كلا التنظيمين تُعد مؤشرًا إلى تحول فى موقف داعش والتحاقها بنموذج الجهاد العالمى . الثابت حتى اللحظة أن الشقيقين، شريف وسعيد كواشى، اللذين نفذا الهجوم على مقر صحيفة شارلى إبدو يوم 5 يناير الجارى، سافرا إلى اليمن عام 2011، ويرجح أنهما كان على صلة بزعيم القاعدة فى شبه جزيرة العرب السابق أنور العولقى، الذى قتل فى غارة أمريكية فى وقت لاحق من ذلك العام. أما أمدى كوليبالى، الذى تم تنفيذ الهجوم على الصحيفة باستخدام سيارة مسجلة باسم زوجته، والذى قام باحتجاز عدد من اليهود إثر حصار الشرطة الفرنسية للشقيقين كواشى يوم الجمعة 9 يناير اللاحق للهجوم، فلم يثبت أنه له علاقة تنظيمية مباشرة ب داعش أو قيادته، بل إن شريط الفيديو الذى يتضمن إعلان انتمائه إلى داعش يختلف جوهريا عن نمط أشرطة الفيديو التى تصدرها وحدة الدعاية التابعة للتنظيم. ويرجح أن كوليبالى كان شريكًا فى تلك العمليات الإرهابية بالأساس جراء علاقته مع الشقيقين كواشى والتى تعود إلى عام 2005، على الأقل، حين سُجن كل من كوليبالى وشريف كواشى معًا، وليس فى إطار عملية منسقة بين داعش و القاعدة . ويبقى أخيرًا، أن قيام داعش ، يوم الأحد الماضى، أى بعد نحو أسبوع من الهجوم، بإعادة بث شريط فيديو أصدره التنظيم فى سبتمبر الماضى ويتضمن دعوة أنصاره إلى شن هجمات فى الولاياتالمتحدةوفرنسا وكندا وأستراليا عقب بدء غارات التحالف الدولى على قواعده فى سوريا، يوحى بأن التنظيم يحاول فقط استغلال الهجمات التى يبدو أنها فاجأته فى مسعى للحفاظ على شعبيته. يرجح، بالتالى، أن داعش مستمر حتى اللحظة فى استراتيجية السيطرة على الأرض، وتعبئة المتعاطفين معه للانخراط فى معركة تأسيس الخلافة ، بأكثر من شن هجمات إرهابية عالمية على نسق القاعدة ، فضلًا عن أن يكون بالتنسيق معها. ويبدو أن داعش لن يلتحق بالجهاد العالمى بشكل جوهرى إلا فى حال النجاح فى القضاء على فرض سيطرته الإقليمية، وهو ما لا يبدو أن استراتيجية التحالف الذى تقوده الولاياتالمتحدة ضد التنظيم تستهدفه فى أمد قريب. ويتمثل الخطر الحقيقى الذى يتهدد المنطقة فى محاولة استغلال الهجمات لتبرير تدخل دولى آخر جزئى ومحدود، مثلما يُثار حاليا بشأن الجنوب الليبى، حيث إن تدخلا انتقائيا آخر لا يستهدف مجمل وجود التنظيمات الإرهابية، لن يؤدى إلا إلى إعادة انتشار خطر تلك التنظيمات عبر بؤر الرخاوة الأمنية فى الإقليم، والتى لا تستهدف أى استراتيجية حقيقية وأد مخاطرها أو إعادة تأسيس حضور الدولة فيها، مما يجعل هذه البؤر مَوْئلًا مرجحًا لتجنيد مزيد من المتعاطفين مع تلك التنظيمات الإرهابية وأيديولوجياتها.