كان السادات -كما أسلفنا- قارئا جيدا لموازين القوى، وكان أسلوبه يجمع بين نقيضين، الاعتماد على عنصر المفاجأة الاستراتيجية، وعلى الصراحة المطلقة فى المفاوضات، أو على الأقل فى تعاملاته مع الولاياتالمتحدة، فكان يحدد مسبقا أهدافه الحقيقية من المفاوضات، المجالات التى يستطيع أن يقدم فيها تنازلات، الخطوط الحمراء، القضايا التى لا يمكن التفريط فيها، وكان السادات يدرك أهمية اكتساب تعاطف وتأييد الإعلام الغربى. وكان هذا الأسلوب يتفق وشخصيته، فهو يجيد التمويه وإخفاء مشاعره، يحب الأضواء، وكان يتفق أيضا وتصوراته عن نفسه، فرعون متمتع ببصيرة غير متوفرة فى مساعديه وفى فئات المثقفين المحبين للحوارات البيزنطية، فرعون قادر على اتخاذ القرارات المصيرية، وكان يتفق أخيرا وقراءته لإسرائيل وعلاقتها مع أمريكا، وكانت تصوراته عن إسرائيل خليطا عجيبا من المقولات التافهة ومن الأفكار البالغة الذكاء، ما يهمنا هنا هو إدراكه عمق القلق المتأصل فى نفوس شعب واجه سياسات نازية كادت تبيده، فأصبح راغبا فى التحكم فى 100% من أوراق اللعبة، باحثا عن أمن مطلق كان يتهرب دائما. أدرك السادات أهمية ما أسماه الحاجز النفسى، وسعى سعيا حثيثا لبيع الوهم لإسرائيل، وهم الصلح بأقل كلفة ممكنة، وعلينا الاعتراف بأنه نجح فى طمأنة قطاعات واسعة من النخب الصهيونية، وساعده فى ذلك احترامه العميق لقادة إسرائيل، والاحترام شىء والحب شىء آخر. وكان السادات مدركا لعمق العلاقات الإسرائيلية الأمريكية آنذاك ولعمق عقدة الذنب الغربية تجاه اليهود، ولشك الغرب الكبير فى نيات العرب، نحن ننسى اليوم أهمية تلك الروابط وتلك العوامل، لم يكن هناك فى الغرب من يتعاطف مع الروايات والسرديات العربية والفلسطينية، كان الغرب لا يفهم ولا يتفهم الموقف العربى المطالب باسترداد الأراضى المحتلة والرافض للمفاوضات وللصلح، اليوم يعلم الغرب أن المفاوضات مع أغلب الحكومات الإسرائيلية لا تجدى، ويعلم أن إسرائيل قادرة على ارتكاب جرائم بشعة، وأن ليس كل فلسطينى إرهابى دموى، ويعرف أخيرا أن السردية العربية أقرب إلى الحقيقة التاريخية من الرواية الإسرائيلية، كل هذا لم يكن موجودا أيام السادات، ومن الواضح أن أداء الرئيس المصرى الإعلامى لعب دورا هائلا فى تغيير الصورة، وإقرار تلك الحقيقة لا يتعارض وتوجيه أسهم النقد للخط الساداتى أو لبعض أركان سياسته الخارجية أو كلها. وكان الرئيس المصرى يعلم أن العلاقات المصرية السوفييتية أقل عمقا وحميمية من العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، وأن موقف الشعبين من الدين يحول دون الانتقال إلى مستوى أعمق وأعلى من التعاون بينهما، وأن موسكو ترى فى النخب المصرية خليطا من عناصر البرجوازية الوطنية ومن البرجوازية الأقل وطنية، وفى النظام السياسى والاجتماعى المصرى رأسمالية وطنية لها بعض التوجهات الاشتراكية، وكان السادات على استعداد لإدخال بعض الشيوعيين فى مجلس الوزراء، لكنه كان يرفض رفضا مطلقا تغيير بنية جهاز الدولة وطبيعة علاقات الإنتاج لنيل ثقة السوفييت، وكان الشعب يسانده فى ذلك. ونعتقد أن السادات كان محقا فى رفض خيار تعميق العلاقات مع موسكو من أجل الحصول على سلاح يسمح بخوض معركة شاملة مع إسرائيل، لأن حجم مساندة الولاياتالمتحدة لإسرائيل كان من شأنه منع هزيمة كبرى ومنكرة للدولة العبرية، أو على الأقل كان يرفع تكلفة النصر العربى -على فرض إمكان تحقيقه- ليبلغ مستويات غير مقبولة. لم يكن أمام السادات سوى طريقين، الذهاب إلى واشنطن عن طريق السعودية الشقيقة، آو اتباع استراتيجية الرئيس السورى حافظ الأسد، القائمة على جمع بطىء لكروت اللعبة وعلى رفض تقديم تنازلات وعلى تصيد الفرص وتهديد المصالح الغربية دون الوصول إلى قطيعة، واختار السادات الطريق الأول.