لسنا بصدد تقييم أداء الرئيس السادات العام، إلا أن علينا الاعتراف أنه كان يجيد قراءة موازين القوى، وأنه كان شديد الحساسية لتطوراتها وتقلباتها، ولا يعنى ذلك بالضرورة أن سياساته المبنية على تلك القراءة كانت دائما صائبة أو موفقة، سواء فى خطوطها العامة أو فى أساليب تنفيذها. وأعلم أن ناصر كان يحترم قدرات السادات السياسية، ولا ينفى ذلك اختلافهما فى مقاربتهما لأمور الدنيا الشخصية والعامة. السادات كان كارها الشيوعية والاتحاد السوفييتى، ولا أعلم إن كان هذا الموقف نابعا من إيمانه العميق ومواقفه من الدين ومن الإلحاد، أو كان مترتبا على مقارناته بين أحوال المجتمعين السوفييتى والأمريكى. السادات قام بزيارات للدولتين فى الستينيات، وكان يؤمن أشد الإيمان بأن أعداء الاتحاد السوفييتى يبالغون فى تقدير قوته، وكان يشاركه فى تلك القناعة عدد لا بأس به من السياسيين العرب. وكان شديد الإعجاب بقدرات الولاياتالمتحدة ويهابها. وفى النخبة المصرية، كان هناك من تنبأ فى الستينيات بالثورة التكنولوجية القادمة الكمبيوتر، المعلومات، الحرب الإلكترونية وبعجز النظام السوفييتى عن إعادة الهيكلة وترتيب البيت لمواجهة تحديات تلك المستجدات الهائلة التعامل مع المنظومات التكنولوجية الحديثة يقتضى أنساقا اجتماعية مغايرة، لم يكن النظام السياسى والمجتمعى السوفييتى قادرا على احتمالها . ولا أعلم موقف السادات من تلك المسألة تحديدا، نعرف أنه قال لسعد الدين إبراهيم سنة 1981 إن انهيار الاتحاد السوفييتى مسألة وقت، لكننا لا نعلم متى تكونت تلك القناعة. ننسى اليوم أن الاتحاد السوفييتى فشل فى مطلع السبعينيات فى إنتاج ما يحتاجه من قمح، وأنه اضطر إلى التقارب مع الولاياتالمتحدة سنة 1972، سنة الوفاق والتهدئة الاستراتيجية والتعاون الاقتصادى، وكانت الدوائر المالية والاقتصادية الأمريكية من أهم أنصار سياسة الوفاق، ونعتقد أن الرئيس السادات استنتج آنذاك أن العجز السوفييتى فى مجال الزراعة وعدم قدرته على تحقيق الاكتفاء الذاتى علامة ضعف لا تخطئها العين ستترتب عليها آثار استراتيجية سلبية طويلة الأمد، وقد نستطيع أن نشكك فى صحة بعض الحيثيات التى بنى السادات حكمه عليها، إلا أن الخطوط العريضة لتحليله كانت فى مجملها صحيحة وعميقة، ولا نعلم إن كان هذا التحليل ذريعة تحجج بها السادات للذهاب إلى حيث يريد، أم أنه السبب الرئيسى لقراره الاستراتيجى المتعلق بقلب خريطة التحالفات الرئيسة لمصر والانضمام إلى المعسكر الأمريكى. وجدير بالذكر أن هناك فى النخب المصرية والعربية من توصل إلى نفس النتائج (ضرورة مخاطبة ود الولاياتالمتحدة) دون الحاجة إلى نفس التشخيص لقدرات موسكو، لأنه قدر أن سياسات الوفاق كانت ستدفع موسكو إلى احترام الأمر الواقع فى الشرق الأوسط (حالة اللا سلم لا حرب)، علاوة على ذلك، كانت العواصم الكبرى تحتقر آنذاك الجندى العربى والقدرات العسكرية العربية، وكانت موسكو تشاركها فى هذا التشخيص الذى جرح كل عربى عاصر تلك الفترة، وهذا الجرح هو الدافع الرئيسى للأداء المذهل سنة 1973. الإقرار بصحة قراءة السادات للوضع الدولى ولموازين القوى لا يترتب عليه الامتناع عن نقد سياساته وعن رفضها، ولكن هذا النقد يجب أن يكون منصفا، ويبدأ مشوار الإنصاف بالاعتراف بالوضع الصعب المترتب على هزيمة 67، والاعتراف بصعوبته لا يجب أن يدفعنا إلى نسيان أو تناسى حقيقة جوهرية، وهى أن مصر كانت تمتلك ثروة مهمة أهملها الباحثون وميزات نسبية عديدة، تلك الثروة المهمة -شئنا أم أبينا- كانت المشروع الناصرى والرعب منه رغم تراجعه ورغبة أطراف محلية ودولية عديدة فى التخلص منه وفى طى صفحته، واستعداد تلك القوى دفع مبالغ طائلة لتقوم مصر بدفنه بنفسها، نحن معشر المصريين أعلم بأوجه ضعف هذا المشروع، وبالعيوب العضوية الهائلة التى عرضته للانتكاس والهزيمة، ولكنننا نسينا مواطن قوته وجاذبيته الهائلة وعظمة إنجازاته على الأرض، أقول هذا رغم إقرارى بهول كارثة 1967، وسنعود إلى كل هذا بشىء من التفصيل.