«فى نحو الساعة العاشرة وخمس دقائق من صبيحة يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر ديسمبر عام 1948، وبينما كان دولة النقراشى باشا يسير فى فناء وزارة الداخلية، ميممًا شطر المصعد فى طريقه إلى مكتبه وحوله ضباطه، وجنوده من رجال الحرس، تقدم شاب فى ميعة الصبا، شاحب الوجه، وكان مرتديًا ثياب ضابط برتبة ملازم أول، وصوب مسدسه نحو ظهر الفقيد، وأطلق رصاصتين أصابتا ظهر الفقيد، وسقط على ظهره، يتضرج فى دمائه، ولم تمض دقائق حتى فارق الحياة وتمكن رجال البوليس الذين كانوا فى حراسة الفقيد من اعتقال القاتل». هذا ما تداولته الصحف والمجلات المصرية والعربية والعالمية فى تلك الآونة، بعد هذا الحادث الرهيب، وقد سرده بالتفصيل الكاتب لطفى عثمان، الذى كتبه تحت عنوان قضية مقتل النقراشى باشا ، ورصد فيه اعترافات القاتل كاملة، وأقوال الشهود، ومذكرة الادعاء، ومرافعات الدفاع، وصدر هذا الكتاب فى أبريل عام 1950. وبعد حادث الاغتيال ببضعة أيام، ففى يوم 3 يناير عام 1949 نشرت مجلة الإثنين والدنيا تغطية مصورة لدولة رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى، تحت عنوان اتنين اتنين مع الفقيد الكريم ، تتبعت لحظات إنسانية من حياته فى صحبة بعض خلصائه المقربين منه، وفى هذه الصور التى انتقتها المجلة بعناية فائقة، ليفوز القرّاء ببورتريه دقيق عن شخص الفقيد، ففى الصورة الأولى، كانت مع إبراهيم عبد الهادى باشا، وفيها ينصت النقراشى باهتمام شديد، وكتب تحت الصورة كلمة سر ، ثم استطردت لتكتب: كان النقراشى باشا يؤثر الصمت.. وكان إذا تحدث إلى أحد، همس بالكلام همسًا حتى لا يكاد يسمعه مَن بجواره.. وكان أصحابه والمقربون إليه يعرفون فيه ذلك.. فكان حديثهم معه همسًا.. وها هو ذا يستمع إلى إحدى الهمسات من صديقه وخليفته دولة إبراهيم عبد الهادى باشا.. ترى ماذا كان الصديق يسرّ به إلى صديقه فى ذلك اليوم؟ إن النقراشى قد ابتسم حينما استمع إلى همسة صديقه.. ابتسامة المجاهد المؤمن، الذى لا يخشى فى الجهاد والحق لومة لائم . وجاءت الصور الأخرى مع ابنته صفية، وهما يبتسمان ابتسامات هادئة وحنونة، وقد سماها بهذا الاسم تيمنًا بصفية هانم زوجة الزعيم سعد زغلول، وكذلك جاء التعليق معبرًا ليكشف جانبًا إنسانيًّا فى شخصية الفقيد لا يعرفه الناس، كما نشرت التغطية صورًا أخرى مع أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء السابق، الذى كان قد لقى نفس مصير الاغتيال، وجاءت صورة الفقيد مع مصطفى النحاس باشا وتزيّنها ابتسامات مبهجة. وبعيدًا عن الملف الذى أعدّته المجلة وبقية الصحف الأخرى، فقد تم القبض على القاتل، الذى ارتكب الجريمة بسرعة فائقة، للدرجة التى أصابت ياور الفقيد الصاغ عبد الحميد خيرت بالذهول، وعقدت الدهشة لسانه، ولكن بعد إفاقته هو والزملاء انقضوا على القاتل، وانتزعوا المسدس من يده، ماركة بارتا طراز 1934، وبه مشط ذو ست طلقات، وهو أوتوماتيكى سريع الطلقات، والقاتل هو شاب فى الحادى والعشرين من عمره، ويدعى عبد المجيد أحمد حسن ، وكان طالبًا بكلية الطب البيطرى بجامعة فؤاد الأول، وتبين أنه من جماعة الإخوان المسلمين ورئيس لإحدى خلاياها بالجامعة. واعترف القاتل بشكل مبدئى، وبكل التفاصيل التى أعدّها لهذا الاغتيال، وحاول أن يقدم تبريرًا لهذا الاغتيال، قائلًا: نبتت هذه الفكرة عندى، وهى فكرة القتل، فى جملة ظروف تجمعت عندى، وهى أولًا موضوع السودان، فإنه لم يقم بأى عمل إيجابى، وثانيًا فلسطين، فإنها ضاعت وأخذها اليهود، وهذا يرجع إلى تهاون النقراشى باشا، والعامل الثالث أنه اعتدى على الإسلام، وهو أنه شرّد الطلبة من الكليات وحمّل جماعة الإخوان المسلمين، وما يتصل بها من شركات كانت جماعة المسلمين قد أقامتها، فهو أمر بحلها، وأنا لما رحت كلية الطب البيطرى علشان الدراسة قالوا لى إنك مبعد لنشاطك، مع إن الكلية بتاعتنا لم تشترك فى حوادث كلية الطب أو الجامعة، فكل هذه العوامل جعلتنى أفكر فى الإقدام على هذا العمل، وهو قتل النقراشى باشا، أى أنه من أسبوعين أنا صممت على قتله . كان هذا الكلام الذى سرده القاتل وغيره، يحاول بقدر الإمكان أن يجعل من التهمة حادثًا فرديًّا، كأنه فكّر فيه بشكل خاص، أى أن الحادث كان ردّ فعل عصبى له، مع تبرئة الجماعة وجهازها السرّى، حتى كل الخطوات التى أراد أن يبرر بها ارتداءه زى البوليس وشراء المسدس، حاول أن يشرحها على أنها بمجهوده الخاص، وهكذا ظل القاتل طوال التحقيق يحاور ويداور ويراوغ، إلى أن كان يوم 14 يناير عام 1949، بدأ اعترافه الصحيح، وكان ذلك غداة حادث محاولة نسف دار محكمة الاستئناف، وعقب صدور بيان الشيخ حسن البنا، الذى استنكر فيه جريمة قتل النقراشى، وتبرَّأ من مرتكبيها وندَّد بهم . وهنا بدأ القاتل عبد المجيد الاعترافات التى أخرج فيها الحادث من طابعه الفردى، إلى طابعه الجماعى، فأشرك معه خمسة من إخوانه، وتوالت الجلسات التى أدَّت إلى كشف الكثير والكثير من أسرار التنظيم السرى، الذى كان يقوده عبد الرحمن السندى، والذى كتب عنه الكاتب والمؤرخ الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان مجلدًا ضخمًا بكل التفاصيل، وقد ناظره أحد أعضاء هذا التنظيم صلاح شادى، الذى كان ضابطًا فى البوليس، وتم تجنيده حتى انضم إلى الجماعة، ثم انتظم فى التنظيم السرى، وهو من أخطر التنظيمات الداخلية فى جماعة الإخوان على مدى تاريخها، وأسراره قد تخفى على أعضاء الجماعة أنفسهم، بل على قياداتهم البارزة أحيانًا. وتعد تفاصيل قضية النقراشى، كاشفة لكثير من أركان تنظيم جماعة الإخوان المسلمين فى ذلك الزمان، وحتى الآن.