يعد المؤرخ عبد الرحمن الرافعى أن تعرُّف الزعيم مصطفى كامل فى مقتبل شبابه، على مدام جولييت آدم فى باريس، هو أهم حدث فى حياته السياسية، والقومية، فإن مدام آدم -كما يخبرنا الرافعى- هى من أعظم الشخصيات الفرنسية فى عالم الوطنية والسياسة والأدب، وهى الكاتبة الكبيرة ذات الشهرة العظيمة والنفوذ الأدبى فى فرنسا، وكان من مشاهير الرجال من نواحى الأرض يرحلون إليها ويجتمع بدارها العلماء والأدباء وكبار القوم وملوك الشعر والأدب والسياسة. ويبدو أن مصطفى كامل الذى ذهب إلى فرنسا قبل أن يتم العشرين من عمره، افتتن بهذه السيدة، التى تقطر إخلاصًا لبلادها، وتعلّم جميع من حولها كيف يحبون أوطانهم، وكان مصطفى كامل جاهزًا لتلقى هذه الروح البالغة الحماسة، وفى عام 1895 سعى مصطفى كامل ليتقرب من مدام جولييت، هذه الأسطورة الفرنسية التى يتحدث عنها الجميع، وفى 12 سبتمبر 1895 كانت أولى رسائله إليها، وقد تضمنها مجلد المراسلات الذى تفضلت الهيئة المصرية العامة للكتاب بنشره، ضمن الأعمال الكاملة للزعيم، وذلك فى عام 1982، وقد قدم لهذه الرسائل الدكتور شوقى الجمل، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر آنذاك فى جامعة القاهرة، والذى كان مشرفًا على مركز وثائق وتاريخ مصر، وقد أشار الجمل فى تقديمه للمراسلات، أن تراث مصطفى كامل من كتابات وخطب ومراسلات كبير جدا، ولكن ما بذله الباحثون من جهد مضن كذلك كان مجيدًا، وهذا كل ما وصلت إليه أيديهم، وأشار إلى أن رسائل مصطفى كامل إلى السيدة جولييت كانت باللغة الفرنسية، وكان قد نشرها شقيقه على فهمى كامل تحت عنوان رسائل مصرية فرنسية ، ومعها ترجمة عربية لها، وقد نوّه الجمل بأن رسائل الزعيم إلى مدام جولييت هى أكبر مجموعة رسائل أرسلها إلى شخصية واحدة. وفى أول رسالة كتبها مصطفى كامل إلى جولييت قال فيها: سيدتى.. إنى لا أزال صغيرًا، ولكن لى أطماعا، فإنى أريد أن أوقظ فى مصر الهرمة، مصر الفتية، هم يقولون إن وطنى لا وجود له، وأنا أقول يا سيدتى إنه موجود، وأشعر بوجوده بما آنس له فى نفسى من الحب الشديد الذى سوف يتغلب على كل حب سواه.. وسأجود فى سبيله بجميع قواى وأفديه بشبابى، وأجعل حياتى وقفًا عليه، إنى أبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وقد نلت شهادة الليسانس فى الحقوق من طولوز منذ عهد قريب، وأريد أن أكتب وأخطب وأنشر الحمية والإخلاص للوطن اللذين أجدهما فى نفسى، وقد قيل لى أكثر من مرة إنى أحاول محالا، وحقيقة تصبو نفسى إلى هذا المحال.. يا سيدتى فإنك من الوطنية بمكان يفردك بمزية تدبر قولى وتقوية عزمى ومساعدتى.. وتقبلى تحية واحترام مصطفى كامل . وجدير بالذكر أن مدام جولييت استجابت لرغبة هذا الشاب الصغير للتعرف عليها، وهى التى تكبره بما يصل إلى أربعين عاما، إذ كانت من مواليد 1836، ورحلت عن مئة عام 1936، بينما هو لم يعش أكثر من أربعة وثلاثين عاما، وقد كتبت جولييت عن إعجابها بإحدى رسائله التى ضمنها كتابًا بالفرنسية كان قد أنشأه تحت عنوان أخطار الاحتلال البريطانى على مصر ، فكتبت تقول: أعجبتنى كثيرًا هذه الرسالة -أخطار الاحتلال البريطانى على مصر- واقتبست منها أسانيد جديدة فى المسألة المصرية، وقد سبق لى الخوض فيها كثيرا، وأثنيت على المؤلف فى مقالتى . واستمرت العلاقة بين كامل وجولييت طويلًا، وظلت المراسلات تعمل بينهما لتبلغ 107 رسائل، وكانت جولييت تلعب دورا محوريا فى حياته، وأتاحت له التعرف على كثير من رجالات الأدب والسياسة فى فرنسا، وحفزّته ليكتب فى مجلتها لانوفل ريفو ، وساعدته على نشر مقالاته وأحاديثه الصحفية فى الجرائد والمجلات الفرنسية، وهو كان يخبرها دومًا بالحالة السياسية فى مصر، إذ يكتب لها فى 28 ديسمبر 1899 يقول: لا تزال الحالة السياسية فى مصر كما هى، والحكومة المصرية آثمة لاهية عن واجباتها، وإذا كانت الحكومة مهملة، فإن الأمة قد ابتدأت تعلم نفسها، فإن المدارس الأهلية التى أنشئت فى العام الماضى قد نجحت نجاحا عظيما، وفى مدرستى اليوم 265 تلميذًا كلهم من سلالة مصرية وعلى أتم الذكاء، وإِنَّا نبث فيهم الشعور الوطنى بأكمل معانيه، وأملى أن أكوّن منهم وطنيين عظماء . وكما هو واضح أن مصطفى كامل كان يتمتع بكل الحماس وكل المعانى الوطنية التى جعلت له الصيت والتأثير الواسعين، خارج البلاد وداخلها، كذلك كانت صلته بأطراف قوية فى الخارج، تعطيه الثقة العالية فى مواجهة الإنجليز، وهو كان شديد الذكاء فى توطيد علاقاته مع الفرنسيين على وجه الخصوص، وعلى وجه أخص الشخصيات المؤثرة، وهذا -تقريبا- يشبه حركة منظمات المجتمع المدنى الآن. وتعد هذه الرسائل وغيرها من أشد الوثائق أهمية، لذلك فالعبث فيها، أو تحريف ترجمتها لحسابات سياسية، أو عائلية، لا يخلّ باللغة والأسلوب فحسب، بل يخلّ بمحاولتنا فهم التاريخ على وجهه الصحيح، إذ لاحظت وأنا أطابق بعض الرسائل المنشورة فى مجلد المراسلات، ونصها فى كتاب مصطفى كامل باعث الوطنية للمؤرخ عبد الرحمن الرافعى، وهو من أشد الدعاة للزعيم، وهو ابن الحزب الوطنى القديم الذى أسسه مصطفى كامل، أن هناك بعض التحريف، أو عدم الدقة، وبالتالى لم نقرأ تنويهًا عن هذا الاختلاف إطلاقًا، مما أغفله المحقق أو جامع الوثائق. وأضرب مثالًا واحدًا الآن لضيق المساحة، وستكون لنا عودة -إن شاء الله- لهذا الأمر مرة أخرى، عندما ناشد كامل مدام جولييت وقال لها: أعينينى ، وهنا اكتفى الخطاب فى الرسائل المنشورة بصياغة أخرى لا تدل على ندائية التعاون، التى يناشدها ب تقوية عزمى وشد أزرى ، كما ينطق النص فى كتاب الرافعى. وأرجو من المؤرخين أن لا يستسهلوا هذه المفردات الصغيرة، والتى من الممكن أن يكون حذفها شقيق مصطفى كامل لأسباب عائلية، كما فعلت هدى شعراوى مع نصوص والدها محمد سلطان باشا، أو لأسباب سياسية وفكرية كما فعل طاهر الطناحى مع أحمد لطفى السيد فى مذكراته حياتى ، والحديث يطول فى هذا الشأن.