حالة الصحافة والإعلام المرئى الرسمى والخاص تحتاج إلى وقفة حزم وجدية، وإرادة مهنية وسياسية لمواجهة تدنّى مستويات ومعايير الأداء والقيم المهنية، على نحو بات مقلقا وخطيرا، بحيث تحوَّلت بعض هذه الأجهزة الإعلامية إلى أحد مصادر إنتاج التخلف الفكرى، وتشويه الوعى الاجتماعى والسياسى فى المجتمع المصرى، وذلك بديلاً عن أن تكون إحدى طلائع العقلانية والاستنارة، وداعية حقيقية لقيم العقل الناقد والمعرفة العلمية، فى ظل عالم متغير ويتطور بسرعات متلاحقة ومكثفة فى عديد المجالات، فى التقنيات المعلوماتية الرقمية، التى ستسهم فى إنتاج القطيعة على مستوى المعرفة، والمفاهيم، والقيم، والأخلاقيات وفى الأفكار والعقائد والطقوس الدينية من خلال مقاربات جديدة، ومغايرة لما ساد فى عصر الحداثة الفائقة -بتعبير هابرماس- أو ما بعد الحداثة -وفق جان فرنسوا ليوتار- أو عصر المابعديات كما كتبنا مرارا. تطورات مذهلة فى النظريات والاكتشافات العلمية فى مجال العلوم الطبيعة، تنذر بتغيرات وتحولات بنيوية فى الفكر العلمى والحياة الإنسانية، بل فى علاقة الإنسان بالكون، ونحن لا نزال نحتفى فى تعليمنا، وإعلامنا، وحياتنا اليومية بالعفاريت والجن، والخيالات الأسطورية والميتافيزيقية التى تسكن عقول غالب العوام، والأخطر فى ما يدرِّسه بعض المدرّسين والمدرسات فى المدارس، كإحدى علامات الفكر الخرافى الذى يسيطر على بعض ثقافتنا الدينية الشعبية، وفى الفلكلور، وبعض الوعظ والإرشاد الدينى، ومنهم من تخرَّج فى الأزهر، وهناك آخرون من دعاة الطرق -بتعبير الأستاذ العميد طه حسين- أو دعاة الشوارع الذين انتشروا وأشاعوا الخرافات على أنها جزء من الإسلام الحنيف، أو المسيحية السَّمْحَة. إن بعض البرامج التلفازية يقدم خطاب الجن والعفاريت والممسوسين، فى محاولة لتحقيق رواج وذيوع بين العوام، لأنها تحيلهم إلى نمط من التنشئة الأسرية والعائلية المألوفة لديهم، ومن ثم لا تزال تنتج ثقافة الخرافات والإحالة إلى الكائنات غير المرئية والأشباح، والتى تتناقلها الأجيال فى عديد من الأوساط الاجتماعية فى الأرياف، والمدن المريّفة التى تغذّى ثقافة ووعى بعض المصريين من الأميين وبعضهم من المتعلمين. هذا العالم اللا مرئى الذى يستدعى غالبا فى أساليب التربية والتلقين والأمثولات الشعبية الكائنات الشبحية من الجان والعفاريت التى تتمثل لدى بعضهم فى شكل حيوانات وطيور وحجر، أو بشر، أو كائنات أسطورية مزيج من البشرى والحيوانى والطيرى، أو صور تتألف منها هذه الأنماط وغيرها، من هنا نستطيع القول إنه لا غرابة فى احتفاء بعض البرامج بالجن، ولمَ لا؟ بعض هؤلاء تشكل وتربى وتعلم من خلال هذا التكوين والوعى المثلوم بالخرافات والارتكاز على الأمثولات الشعبية وكائناتها الأسطورية التى تسكن وعى بعض هؤلاء. كيف لا ينتشون بمعالم الأساطير والخرافات والجن والعفاريت، وهم أبناء نظام ومناهج تعليمية تحتفى بهذه الفضاءات والأخيلة الأسطورية والخرافية. كيف لا، والثقافة العلمية البسيطة والأولية على حالها من التخلف التعليمى، وعدم مواكبة التطورات العلمية المذهلة فى مراكز إنتاج المعرفة فى العالم المعولم. إن بعض المتابعين للبرامج التلفازية الحوارية والدينية يرون أن وراء ما يتم سياسة جديدة/ قديمة للنخبة الحاكمة -القديمة/ الجديدة- بعد 25 يناير 2011 وأحداث 30 يونيو 2013، وتسأل، ما هذه السياسة الجديدة؟! يقال لك من بعضهم إن النظام يريد إشاعة أن الحياة عادت إلى سويتها قبل الانتفاضة الثورية، وإن الإعلام التلفازى ودوره البارز والخطير والمؤثر على صياغة وعى الجماهير لا بد أن يبتعد عن البرامج الحوارية والسياسية السجالية التى تذكر قطاعات واسعة من المصريين بضرورات التغيير الاجتماعى والسياسى الثورى، ومواجهة الفساد المنتشر، وفى مصاولة أركان النظام القديم الفاسد، ومطاردة الجهل والجهلاء الذين يديرون بعض أجهزة الدولة، والتصدى للفساد الكبير الذى يعشش فى أوكار غالب البيروقراطية وجميع مستوياتها الهرمية. إنها تفسيرات ومقولات بدأت فى الشيوع مع بعض التغير فى خرائط القنوات التلفازية الخاصة، وهى تفسيرات بها جزء من ثقافة المؤامرة الذائعة فى عقول بعض المصريين، ولكن بها ملاحظات وجيهة وتجد سندا لها فى ما نراه. إن برامج العفاريت والملحدين والمثليين والدعاة.. إلخ، وغيرها لا تختلف فى تردى مستوياتها المهنية، عن بعض البرامج الحوارية السياسية التى تقوم على الشجار الحوشى الموشَّى باللغة الجارحة والعنف اللفظى، وغياب المعلومات والتحليل والمعرفة بما يتحدث بعضهم عنه فى هذه البرامج من جماعة الخبراء فى اللا خبرة! إن خطورة القنوات الفضائية يتمثل فى أن بعض برامجها وموضوعاتها تكرس ضحالة المعرفة وتشويه الوعى الجمعى وتدنى الثقافة، والأخطر.. الأخطر أنها تكرس تخلفنا المصرى التاريخى والمركب، وتذهب بوعى بعض الجمهور بعيدا عن القضايا المهمة والخطير والملحة التى تواجهنا فى العودة إلى التسلطية وليس الخروج إلى ما بعدها، ثم إلى تطور ديمقراطى حقيقى. إنها تأخذنا بعيدا عن قضايا الفقر والتهميش التاريخى لفئات اجتماعية، ومناطق لم تصل إليها مشروعات التنمية. إنها تأخذنا بعيدا عن تخلف مصر عن الإقليم وتجاوز دورها التاريخى الذى لم يعد سوى جزء من ذاكرة الإقليم! إنها تأخذنا بعيدا عن تخلف التعليم فى جميع مراحله، وانحطاط العقل والوعى العام! إنها تأخذنا بعيدا عن الترييف السياسى والاجتماعى، وانحطاط ثقافة المدن ونمط الحياة المعولم لها! إنها ثقافة تساعد على عودة النظام القديم التسلطى؟ وتكرس النقلية والتسلطية الدينية، ولا تساعد على بناء أشكال ومصادر للمساندة السياسية لإحداث تغيير وتحول سياسى واجتماعى حقيقى فى البلاد! إن الولع بتقديم برامج تستقطب عيونا وآذانا من المشاهدين لاعتبارات الشهرة والذيوع، والإعلانات، والأجور المليونية، وبمئات الآلاف شهريا، هو تعبير عن غياب المهنية وثقافة الاحتراف والعقل النقدى، والقيم المهنية التى يتسلح بها الإعلامى والصحفى فى عمله! والسؤال: هل هذا ما يريده رجال الأعمال من أصحاب هذه الفضائيات؟ هل هذا ما يريده النظام من الإعلام الرسمى المتدهور؟ حسبنا الله ونعم الوكيل.