نبيل عبد الفتاح إلي أين يقودنا الإعلام المصري المرئي والفضائي والمكتوب والمسموع؟
هذا السؤال مطروح منذ عقود وليس وليد الصخب واللغو والتدهور في الخطاب الإعلامي الذي سبق وواكب مباراة كرة القدم التي جرت بين الفريقين المصري والجزائري, حيث سيطرت اللغة والمفردات التي ينبو عنها الذوق اللغوي, واللياقة والرصانة التي تليق بتراث الصحافة والإعلام التلفازي المصري, الذي راكم خبرات وتقاليد انكسرت قوادمها, ولم تعد قادرة علي رفد مقدمي ومعدي البرامج بالحد الأدني من القواعد والمعايير المهنية والأخلاقيات المنصوص عليها في المواثيق الدولية المقارنة, والتي تغدو الممارسات الخارجة عليها, شذوذا وانحرافا والأخطر جزءا من حالة تخلف مهني وتدهور أخلاقي لا تزال تشكل جزءا من مواريث السلطوية الإعلامية, والتخلف السياسي والإعلامي.
إلي أين يقودنا إعلام يقوده بعضهم دونما تكوين أو مهارات أو تأهيل مهني, وعلي نحو أدي ولا يزال إلي تجهيل الرأي العام, أو مستهلكي برامج الثرثرة الفارغة, والخطابات الناطقة بأحكام القيمة الأخلاقية العشوائية, التي تخلط بين المعلومة والإشاعة, بين الحقيقة المادية وأوهام التأويل, والاختلاق!
إن متابعة ما حدث من مهاترات وخطاب السب والقذف العلني يشير إلي أننا لسنا إزاء وقائع إعلامية طارئة, وإنما إزاء تراكمات وعوامل أدت إلي تحول غالب الإعلام التلفازي/ الفضائي المصري إلي حالة مرضية, تحتاج إلي رصد العلل الكامنة فيها, والعوامل التي أدت إلي الممارسات اللا مهنية التي رأيناها علي الشاشات, وفي تعليقات بعض الصحف القومية والحزبية والخاصة؟
ثمة عديد الأسباب التي تكمن وراء الحالة الإعلامية الثرثارية الراهنة, يمكن رصد بعضها تمثيلا لا حصرا فيما يلي:
1 ضعف مستويات التكوين المهني لدي بعض الصحفيين والعاملين في الإعلام الرسمي, ولاسيما في ظل التطورات التقنية في مجال المرئيات والمعلومات والوسائط المتعددة, بما يفرض ضرورة اللجوء إلي مناهج ودراسات إعلامية متطورة علي نحو ما يتم في المعاهد والمدارس الإعلامية المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة, خاصة في ظل التحول المستمر من الصحافة الورقية إلي النتية/ الرقمية, والمرئية من خلال الإعلام الفضائي.
هذا التحول لا يزال بعيدا عن ذهنية وتكوين وقدرات بعض الأجيال الصحفية_ الوسيطة وكبيرة السن-, ومن ناحية أخري لا تزال الأجيال الشابة تعاني من ضعف التعليم العام والجامعي, بل وثمة هؤلاء الذين تلقوا تعليما إعلاميا مبتسرا, والاستثناءات جد محدودة وتعتمد علي الدوافع والقدرات الشخصية للطالب.
2 اعتماد عمليات التجنيد لمهنة الصحافة والإعلام المرئي علي معايير ذاتية في الاختيارات للعمل في الصحف, أو التلفازات الفضائية والأرضية, حيث تسود بعض من الوساطات والمحسوبيات ومترتباتهما, في انتقاء مقدمي ومعدي البرامج والإداريين.
ومن المثير للانتباه أن الاختيارات لا تعتمد علي المعايير المهنية, أو إدراج غالب الذين يتم اختيارهم ضمن برامج للتكوين والتأهيل الذي يسمح بتنمية وترقية قدراتهم, والتعرف علي إمكاناتهم, أو مواهبهم إن وجدت وفي أي المجالات.
3 عمليات الترقي لتبؤ المواقع القيادية تعتمد علي معايير الأقدمية والامتثال والخضوع للقيادات الأعلي, وفق منطق الزبائنية_ الوظيفية, والولاء الشخصي لأصحاب القرار داخل الجرائد, أو القنوات, بالإضافة إلي الولاء السياسي التام, وفق المعايير المعروفة في هذا الصدد.
4 ضعف المستوي الثقافي العام, وفي اللغة العربية وآدابها, واللغة الإعلامية الميسرة, وفي منطق لغة الصورة في علاقاتها باللغة المنطوقة من تعليقات وآراء ومداخلات , وهو ما يظهر وبوضوح في عديد المظاهر ومنها:
أ الثرثرة والإطناب والسيولة اللفظية, وعدم انضباط المفردات والمعاني الحاملة لها, والفوضى في الاستخدام الإنشائي والبلاغي للمصطلحات العلمية التي باتت شائعة, ولكنها تستخدم علي نحو غير دقيق وفي غير مجالاتها, وهو ما يؤثر سلبا علي مستهلكي الإعلام المرئي والمكتوب من حيث أضعاف وتدهور مستوي المعرفة والوعي والقيم والأخطر علي الأجيال الأصغر سنا من المصريين.
ب اللجوء إلي اللغة العامية السائدة في أوساط الأميين, وأنصاف المتعلمين, والأخطر تضمين الخطاب الثرثاري المتلفز, الأمثولات الشعبية وأحكام القيمة التقليدية, علي نحو يؤدي إلي إحياء منطق ولغة ما قبل الحداثة, وبما يدعم الثقافة التقليدية والقيم وأنماط التفكير والسلوك المواكب لها.
ج الميل إلي لغة الانطباعات والعفوية في الوصف والتفسير للظواهر والوقائع والصور, علي نحو يكشف عن ضعف وخواء وعدم تخصص, وهو ما بدا ظاهرا وصادما في مباراتي الجزائر بالقاهرة, وأم درمان, لدي كثر من المعلقين_ والاستثناءات قليلة بين المعلقين-, حيث لا علاقة للغو العامي ولغة الحماسة والشحن والتعبئة لجمهور المشاهدين, وبين ما يحدث في أثناء المباراة, من وصف وتحليل للخطط, وتغيراتها, وأداء اللاعبين, وتقويم الفرق من حيث المزايا والعيوب والأخطاء.
د في مباراة الجزائر/ مصر في أم درمان, كانت ذروة في تدهور مستوي أداء الإعلام التلفازي الفضائي, ولاسيما في ظل غياب توثيق مرئي لما حدث من وقائع عنف, وعدد الضحايا, وأشكال العنف, علي نحو أدي إلي تعليقات أشبه بخطاب عنف لفظي اتسم بالتدني في مفرداته التي انحدرت إلي مستوي السب والقذف, الذي يبدو أن بعضهم كشف عن خلفية لا نحتاج إلي توصيفها أو إصدار أحكام قيمة أخلاقية علي مستواها!
ه ضعف المسئولية المهنية والسياسية لدي بعض مقدمي وضيوف البرامج' الحوارية'_ يا ليتها كذلك-, من حيث عدم التحرز في إطلاق الأحكام المعممة علي الشعب الجزائري, والأخطر عدم تفسير أسباب العنف لدي بعض الجمهور الجزائري, والذي يعد ظاهرة اجتماعية في مباريات الكرة بين الفرق المختلفة هناك.
و اعتماد بعض الفضائيات الخاصة المملوكة لبعض رجال الأعمال علي بعض معدي ومقدمي البرامج من الصحف الذين حولوا كرة القدم إلي أيقونة للوطنية واختزال الأمة والدولة والوطن والانتماء في فريق كرة القدم القومي الذي قد يفوز أو يهزم في أية مباراة دولية أو قارية لاعتبارات تتصل بسوء الإعداد, أو خلل في الخطة, أو الأداء الكسول لبعض اللاعبين, أو لإصابات ألمت ببعضهم.
هذا التوجه كشف عن غياب للمسئولية السياسية والإعلامية, لأن الأمة والانتماء الوطني المصري, ومصر أكبر من فريق لكرة القدم, وأكبر من حكامها, وأكبر من معلقي البرامج الثرثارية التي أثرت سلبا علي وعي الجمهور.
ه قام غالب المعلقين ومقدمي البرامج وضيوفها بتحويل المباراة لحرب كلامية, ساهم فيها بعض الصحف الجزائرية, في مشهد لا ينسي من التدهور المهني, والسعي إلي التوزيع, والذيوع, واستخدام المباراة وعنفها الفظ والرديء إلي مطية لجذب أكبر أعداد من المشاهدين, أو القراء عبر آلية الشحن والتعبئة وتجريح بعضهم للشعب الآخر علي نحو معمم لا يميز بين بعض الغوغاء من الجمهور, وبين بقية أبناء الشعبين الشقيقين.
يبدو أن مستوي الأداء اللا مهني وسلبياته للمحطات الفضائية المصرية كان فاضحا إلي درجة قيام بعض رجال الأعمال من ملاك الفضائيات إلي الاجتماع وانتقاد ما قام به رؤساء تحرير ومعدي ومقدمي البرامج' الحوارية', سواء بعض لاعبي الكرة والحكام السابقين, أو بعض المحررين الرياضيين لا كلهم في أداءاتهم السلبية, ولغتهم التي انحدرت إلي مستويات تحتاج إلي مناقشة من نقابة الصحفيين التي استقالت مجالسها عن أداء أدوارها المهنية, في تقويم الأداءات المهنية, وتوجيه المسئولية التأديبية لمن يخرج عن القواعد المهنية وميثاق الشرف الصحفي الغائب عن التطبيق.
الحق أن بعض الزملاء كان مثالا علي المهنية واللغة المتميزة والتحليل الرصين, ومعهم بعض كبار اللاعبين والمدربين السابقين, إلا أن ذلك كان بمثابة استثناء, خاصة أن الغالبية كانت فيما يبدو تعتقد أن ثمة توجيهات رسمية بأطلاق العنف اللفظي المكثف إلي الجمهور الجزائري وإلي الشعب والدولة, دونما رصد وتوثيق للعنف وانتهاكات الجمهور الجزائري للتقاليد الرياضية.
للآسف أدي الصخب والثرثرة الإعلامية إلي نسيان الأداء الضعيف لبعض أجهزة الدولة المصرية, وعدم التنسيق فيما بينهما, والأخطر عدم التحفظ والتسرع في المواقف, وكذلك نسيان تقويم أداء الفريق القومي واتحاد كرة القدم, والخطة ومستوي اللاعبين, ومن هم الذين ذهبوا لتشجيع الفريق, ولماذا؟!
إنها لحظة للتقويم, والتعلم, والتراكم والخبرة كي نستطيع أن نواجه مواقف مستقبلية, بالمعرفة والتخطيط والأداء الجيد, لا الفهلوة والهتافات واللغو الحامل لخواءاته وطبوله الجوفاء.
* خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية جريدة الأهرام المصرية 3/12/2009